قال رحمه الله تعالى: [فالواجب أن ينظر في هذا الباب -أعني باب الصفات- فما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها لا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحاً قُبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد والحاجة، مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ونحو ذلك].
في هذا المقطع أجمل مجموعة من القواعد العظيمة التي قررها السلف؛ أجملها إجمالاً لأنه كان الأمر في عصر الشارح واضحاً عند كثير من أهل العلم، أما الآن فنحتاج إلى أن نستقرئ هذه القواعد الإجمالية بشيء من التفصيل، والتي تحكم ما ذكره سابقاً من الكلام عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء، وسائر الألفاظ المبتدعة، هذه القواعد تتلخص فيما يلي: القاعدة الأولى: أنه في باب الأسماء والصفات والأفعال يثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفى عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، هذه القاعدة الأولى وهي المرجع، وهي الأصل.
القاعدة الثانية: أن الكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله بما لم يرد في الكتاب والسنة نفياً وإثباتاً بدعة في الأصل، ولم يخالف في ذلك أحد من السلف، لكن قد يضطر العالم إلى الكلام فيما ابتدعه الناس ضرورة من أجل بيان الحق وتثبيته، ونفي الباطل والرد على أهله، هذا أمر قد يضطر إليه العالم، بمعنى: أنه لم يوجد أصلاً من السلف من أجاز لنفسه أن يتكلم عن أسماء الله وصفاته وأفعاله بشيء لم يرد في الكتاب والسنة لغير حاجة ابتداء، لكن ما فعله بعض السلف من الكلام في الأمور التي أحدثها أهل البدع؛ فإنما لجئوا إلى ذلك اضطراراً تقريراً للحق ودفاعاً عن العقيدة؛ لأن البدعة إذا اشتهرت أو عمت بها البلوى لابد من الكلام فيها لتصحيح العقيدة ولنفي الباطل ولإقرار الحق والدفاع عن عقيدة السلف.
إذاً: تبقى القاعدة سليمة، وما حدث من بعض السلف من الكلام في أمر لم يرد في الكتاب والسنة إنما حدث اضطراراً لعموم البلوى.
القاعدة الثالثة: أن هذه الألفاظ التي ذكرها الشارح عن أهل الكلام ونحوها تبين لنا جزماً بالاستقراء أنه لم يرد في الكتاب والسنة لا نفيها ولا إثباتها، فهذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون، كالحدود، والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات والأعراض والجسم والجوهر والمباينة والمفاصلة والجهة ونحو ذلك، كل هذه الأمور لم يرد في الكتاب والسنة نفيها مطلقاً ولا إثباتها مطلقاً، إذاً: نحتاج إلى أن نرجع إلى القواعد العامة، كقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
القاعدة الرابعة: أن هذه الألفاظ إذا وردت على لسان أحد من الناس فلا تنفى إطلاقاً ولا تثبت إطلاقاً، حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن قصد قائلها معنىً صحيحاً يدل على الكمال أخذنا هذا المعنى، ورددناه إلى ألفاظ الشرع، أما اللفظ المبتدع فيرد مطلقاً، وما يحمله من معنى يرد إلى ما ورد في الكتاب والسنة، وما كان فيها من معنى فاسد فإنه يرد مع لفظه.
القاعدة الخامسة: أن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء وصفات وأفعال الكمال لله عز وجل يفي بكل ما يمكن أن يتصوره البشر من الكمال، وبكل ما يمكن أن ينطقون به بأي لسان من الكمال لله عز وجل، فأي كمال يمكن أن يتصور وأي كمال يمكن أن ينطق به البشر بأي لغة من اللغات؛ فلابد أن يوجد في الكتاب والسنة ما يدل عليه وزيادة، بل من أسماء الله عز وجل ما يشمل كل كمال يمكن أن يتصور، كاسم الجلالة (الله)، وكالحي القيوم، والأحد الصمد، وكالعلي العظيم، وكثير من أسماء الله عز وجل تتضمن الكمال المطلق، فلو نطق جميع البشر بأنواع الكمالات لاشتمل عليها هذا اللفظ وهذا الاسم لله عز وجل.
وإنما أردت بهذا أن أقرر ما ذكره السلف من أنه لا يمكن أن يتوهم أن يرد في ذهن أحد من الناس أو على لسانه كمال نحتاج إلى أن نثبته ولم يرد في الكتاب والسنة مثله أو ما يزيد عليه.