بيان ما أحدثه المتكلمون من مصطلحات لنفي ما ثبت لله من الصفات أو تأويلها

الأمر الآخر: أن الذين جاءوا بعد الطحاوي أضافوا أموراً أخرى هي أكثر ما يدور الآن عند المتكلمين المتأخرين، وهي ما يسمونه: الأعراض، والجواهر، والأجسام، يقولون: إن الله عز وجل منزه عن الأجسام، والأعراض، والجوهر، والتلبيس الذي وجد في هذه الألفاظ كالتلبيس الذي وجد في تلك، لكن استعمالها أكثر، فاستعمال الأعراض والجواهر والأجسام الآن وسيلة لتعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله أو تأويلها أكثر من استعمال الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات؛ ذلك أنهم زعموا أن إثبات الصفات يقتضي التجسيم، فقالوا: إن الله عز وجل منزه عن الجسم، وهذا كلام فيه جانب حق لكن أريد به الباطل، نعم الله ليس كسائر المخلوقات التي لها أجسام، لكنهم يدخلون في مفهوم الجسم بعض كمالات الله عز وجل فينفونها بدعوى أنها جسمية، كاليد والعين والنفس ونحو ذلك، يقولون: هذه تقتضي الجسمية، والله عز وجل منزه عن الجسم إذاً: هو منزه عن أن نثبت له يداً ورجلاً وقدماً ونحوها على ما يليق بجلاله، فمن هنا نفوا الصفات بدعوى أنها تقتضي الجسمية، والتمثيل والمشابهة وكذلك الأعراض، يقصدون بالأعراض: الصفات التي يمكن أن يعبر عنها بتعبير يدل على كيفيتها على أي نحو من الأنحاء: فالطول، والعرض، واللون ونحو ذلك كلها أعراض، فيقولون: إن الله عز وجل منزه عن الأعراض، وهذا الكلام فيه حق، لكنه اشتمل على تلبيس، فيدخلون في الأعراض الصفات، فيقولون: إن هذه أعراض، إذاً: فلابد من تأويلها، وكذلك الجواهر، والجواهر: مفردات الجسم، فجزئيات الجسم يسونها جواهر، فينفون كثيراً من صفات الله عز وجل لأنها -كما يقولون- تقتضي الجسمية، والجسمية ترد إلى الجواهر، والله عز وجل ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، فمن هنا كل ما يدل على هذه المعاني من الصفات الواردة في الكتاب والسنة إما أن ينفوه، وإما أن يؤولوه بدعوى أنه يقتضي الجسمية، أو العرضية، أو الجوهر ونحو ذلك.

فيقولون مثلاً: اليد ركن، أو اليد عضو، أو اليد جسم، أو اليد عرض، أو اليد تتكون من مجموعة جواهر إلى آخره، إذاً: فلا يليق أن نصف الله باليد.

فيقعون ويوقعون في التعطيل والتأويل، ونحو ذلك من الأمور الأخرى، كل هذه الأمور بدأت تظهر من جديد على أساس أنها معاول ووسائل للتأويل والتعطيل الذي سلكه المبتدعة.

وقد ذكر الشارح هؤلاء بقوله: [لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي]، بمعنى أنهم يتفاوتون في المفهوم منها، فكل يفهمها بحسب ما لديه من قواعد وعقائد سابقة وخلفية إن صح التعبير؛ ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، النفاة الذين هم أهل الكلام والجهمية والمعتزلة، هؤلاء كلهم نفاة.

وقوله: [ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به]، يعني أن النفاة الذين يستعملونها لنفي صفات الله وتعطيلها يقولون لمن أثبت الصفات: إنه قال بالحد، أو يقول بالغايات، أو يقول بالأركان، ويرون أنه يقول بالأعضاء، أو أنه يقول بالأدوات، أو أنه يقول بالجسمية، والعرضية، والجوهرية إلى آخره، ولذلك وصف المتكلمون السلف بأنهم حشوية ومجسمة، وحاشاهم.

قوله: [وبعض المثبتين لها] يقصد هنا المشبهة الممثلة [يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف]، حيث يبالغون في الإثبات إلى حد لم يرد في الكتاب والسنة، فيثبتون الحد، والغاية، والركن، والعضو، والأداة بألفاظ بدعية وبمعانٍ لا تليق بالله عز وجل، وتناقض قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهؤلاء هم المشبهة الممثلة المجسمة، وهم -بحمد الله- في الأمة قليل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015