في هذا المقطع يشير إلى أمور: أولها: الفهم الصحيح لمعنى قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، على قراءة الوقف، ذلك أن السلف لهم فهم وأهل الكلام والمبتدعة لهم فهم آخر، فالسلف في فهمهم لقوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] يفسرون التأويل هنا بمعنى: تأويل الكيفيات في أخبار الغيب في صفات الله عز وجل وفي أفعاله وفي أمور الغيب الأخرى، فهذه فيها ما لا يعلم تأويله إلا الله، وهو الكيفيات التي هي غائبة عن الحواس وعن العقول.
فهنا التأويل يكون بمعنى: معرفة الكيفية لأمور الغيب، وهذه لاشك في أنه لا يعلمها إلا الله عز وجل، هذا فهم السلف، إذاً: التأويل هنا بمعنى: ما تئول إليه حقيقة الكيفيات، لا بمعنى التفسير.
أما أهل الأهواء المتكلمون ومن سار على سبيلهم فإنهم يفسرون معنى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، بمعنى: معاني كلام الله عز وجل وحقائقه، يقولون في صفات الله عز وجل: ما يعلم تأويلها إلا الله، بمعنى: لا يعلم حقائقها ولا معانيها إلا الله، وهذا خطأ، فالحقائق والمعاني تعلم، إنما الكيفيات هي التي لا تعلم.
فعلى هذا يجعلون حقائق الصفات والأمور الغيبية ومعانيها من المتشابه الذي لا يعلم أبداً، ولذلك صاروا في تفسير نصوص الشرع في الصفات وغيرها على قولين: منهم من يقول: هذه النصوص لا نفهم منها شيئاً أبداً ونفوضها؛ لأن معناها متشابه وحقائقها متشابهة في ذلك، ومنهم من ضل فذهب يؤولها بما يستقيم عقلاً، فقال: لا نثبت معاني ألفاظها ولا حقائق ألفاظها، لكن نبحث لها عن معان أخرى تئول إليها وهي المعاني المرجوحة، فقالوا في قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: الاستواء هنا من المتشابه حقيقته ومعناه، فمنهم من قال: الاستواء لا نعلم له حقيقة أبداً ونفوض أمره إلى الله، وهؤلاء هم المفوضة، ومنهم من قال: نصرف اللفظ -وهو الاستواء- عن معناه الحقيقي، وعن الفهم الذي تفهمه مداركنا إلى معنى آخر نبحث عنه في دلالات اللغة، فبحثوا في دلالات اللغة فوجدوا أن من معاني الاستواء بزعمهم: الملك والسلطان والاستيلاء، مع أن في هذا نظراً، فصرفوا الألفاظ عن معانيها وحقائقها.
فقوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] على الوقف على لفظ الجلالة، يقول السلف في معناه: وما يعلم الكيفيات إلا الله، أما المعاني والحقائق فلا شك في أن الله عز وجل قصد بكلامه معاني وحقائق تدركها عقولنا ومداركنا، لكنها تثبت لله عز وجل من غير تشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وتثبت على ما يليق بالله عز وجل وبجلاله سبحانه.