قال رحمه الله تعالى: [فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص؛ كيف يستدل بنص من النصوص؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر، ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1]، ونحو ذلك مما استعمل فيه (رأى) التي من أفعال القلوب؟! ولا شك أن (رأى) تارة تكون بصرية، وتارة قلبية، وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلص أحد معانيه من الباقي، وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني؛ لكان مجملاً ملغزاً لا مبيناً موضحاً، وأي بيان وقرينة فوق قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)؟! فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب؟! وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه؟! فإن قالوا: ألجأنا إلى هذا التأويل حكم العقل بأن رؤيته تعالى محال لا يتصور إمكانها؛ ف
صلى الله عليه وسلم أن هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء، وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال].
يشير هنا إلى التعبير عند المتكلمين، وأراد أن يرد عليهم بمصطلحاتهم، والسلف أحياناً يلجئون لمثل هذه الردود من باب إقامة الحجة وإلزام الخصم بالحق، فقوله: [هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء وليس في العقل ما يحيلها] يعني: أن رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم ليس هناك في العقل ما يحيلها.
يقول: [بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال]، يقصد بذلك أنه لو عرضنا على أي عقل سليم أنه يمكن أن يكون هناك موجود له وجود ذاتي، أو وجود في الأذهان أو وجود في الخيال أو وجود في العقول أو وجود معنوي -لأن الوجود المعنوي أمر افتراضي ليس حقيقياً- وهو قائم بنفسه، يعني: وجوده ذاتي لا يحتاج إلى غيره، ولكن لا تمكن رؤيته لحكم باستحالة ذلك.
وقوله: [لا تمكن رؤيته] يقصد به أنه لا تمكن حتى ولو وجدت الأسباب وامتنعت الموانع، ونحن نعتقد أن الله عز وجل لا تمكن رؤيته في الدنيا؛ لأن الله بين لنا ذلك، وإلا فما عندنا دليل آخر، لكن لو أن الموانع التي تحجب عن النظر إلى الموجود انتفت والأسباب التي تقدر البشر على النظر وجدت؛ فهل هناك من مانع عقلاً من النظر إلى هذا الموجود القائم بنفسه؟! مثلاً: الملائكة نعلم أنها موجودة مخلوقة قائمة بنفسها، بمعنى: أن لها وجوداً ذاتياً مستقلاً، ليس وجوداً معنوياً أو عقلياً أو خيالياً، فهل أحد من البشر غير من استثنى الله عز وجل رأى الملائكة؟! لكن هل يحيل العقل أن نراهم؟ لا يحيل ذلك، فلو أقدرنا الله على ذلك أو هيأ لنا ذلك لرأيناهم، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، والله عز وجل هيأ له ذلك فرآه، ولكن نحن لا نستطيع أن نرى الملائكة؛ لأن هناك موانع.
فإذا وجدت الأسباب للرؤية وارتفعت الموانع؛ فإنه ليس هناك ما يمنع أن ترى الأبصار ما يمكن رؤيته، هذا أمر.
وأمر آخر بالمناسبة أذكره وهو بدهي، وهو أن الأمر راجع إلى قدرة الله عز وجل، فلماذا يخوضون في أمر أثبته الله عز وجل وهو راجع إلى قدرته، أليس الله سبحانه هو الذي سيقدر عباده على رؤيته على ما يليق بجلاله سبحانه؟! وليس في ذلك نقص له عز وجل، ولا يحيطون به علماً ولا يحيطون به رؤية.
إذاً: ما المانع إذا أقدرهم الله؟! فالمسألة راجعة إلى قدرة الله وينتهي الجدال، فلا داعي لأن يقال: ذلك مستحيل أو غير مستحيل، بل إذا جاءنا خبر عن الله آمنا به وصدقنا، والله على كل شيء قدير سبحانه.