قال رحمه الله تعالى: [وقال الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام.
انتهى].
كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في عقوبة المتكلمين كلام ثابت، وله -أيضاً- عبارات أخرى تشبه هذه العبارات، وسبب ذلك أن الشافعي رحمه الله ممن تصدى لأوائل الجهمية والمعتزلة، تصدى لهم وناقشهم، مثل: حفص الفرد وغيره، ناقشهم وجرت بينه وبينهم مجادلات ثم قطع باب المناقشة؛ لأنه رأى أن مناقشة أهل الكلام تمرض، حتى إنه نهى عن جدالهم بعدما جرب، وأشار إلى الموضوعات التي يقولونها ويطرحونها على الناس، وأنها موضوعات خطيرة في الدين، بمعنى: أن المتورع -بل المسلم العادي صاحب الفطرة- ينفر من مقولاتهم؛ لأنها تتعرض لقضايا خطيرة فيها أولاً: إساءة أدب مع الله عز وجل، وفيها ثانياً: خوض في القدر، وفيها ثالثاً: خوض في الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله عز وجل.
فكل مسائل أهل الكلام تدور حول الكلام في الله عز وجل، وفي ذاته وأسمائه وأفعاله بغير علم وبسوء أدب، وبكلام لا يليق بالبشر مع البشر، فكيف به في حق الله عز وجل؟! والشافعي رحمه الله تورع من أن يذكر شيئاً مما سمعه وناقشهم فيه؛ لأنه يرى أن مجرد حكايته فيه إساءة أدب مع الله عز وجل، بل أحياناً فيه قدح في ذات الله وأسمائه وصفاته وسب لله تعالى، فمن هنا ما مثل ولا ذكر؛ لأنه تورع عن أن يذكر مقولاتهم، وسنجتنب ما اجتنبه الشافعي، لكن أشير إلى قاعدة عندهم تعرفون بها مدى إساءة الأدب مع الله، فالمعتزلة والجهمية كثير من كلاهم يدور على إلزام الله بلوازم، ولن أذكر هذه اللوازم؛ لأنها شنيعة، وأيضاً القول بأن الله لا يفعل كذا، فلن أذكر هذه الأفعال، لكنهم ذكروها، بل أحياناً يقولون: لا يستطيع أن يفعل كذا، ويقولون: يجب على الله أن يفعل كذا! تعالى الله! ويجوز له أن يفعل كذا! ويجب عليه ألا يفعل! إلى آخر ذلك من الأمور التي هي ترهات لو قيلت في بشر لاعتبر هذا من أعظم إساءة الأدب، فكيف وقد قيلت في الله عز وجل؟! هذا مما أشار إليه الشافعي، كما أنه يقصد أموراً أخرى عظاماً يتورع المسلم عن مجرد حكايتها، فلذلك قال: (لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله) ولا أظن هذه مبالغة؛ لأنه ترجى له التوبة لو ابتلي بأي شيء مما نهى الله عنه ما خلا الشرك (خير له من أن يبتلى بالكلام)؛ لأن الذي يبتلى بالكلام قل أن يوفق للخير والهداية إلا نادراً؛ لأنه يعيش في أحلام، ثم إنه في الغالب يتمادى به الجدل والخصام إلى أن يمتهن هذا المسلك ويحترفه حرفة ويظن أنه على الحق، ويظن أن هذه عبادة، حتى إنه أثر عن كبار المتكلمين الأوائل من المعتزلة -مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء - أنهم في رحلاتهم كانوا يقصدون العلماء ومجالس العلم في البلاد لمجرد الجدل والنقاش لا لتلقي العلم، كما ورد عن عمرو بن عبيد أنه مرة ذهب إلى مكة، فكان ذهابه مع وجود أيوب السختياني رحمه الله أحد أعلام الأمة وأعلام السنة، فقارن أحد الناس الذين تنبهوا بين سلوك الرجلين، فذكر أن عمرو بن عبيد كان يجلس في البيت الحرام، ثم بعد صلاة العشاء يطلب من يناظره في بدعته، فيجلس يناظر الواحد تلو الآخر إلى الفجر، حتى إنه مرة لما صلى الفجر وانتهى من الصلاة بعد نقاش طول الليل قال لمن ناقشوه: إن بقي عندكم شيء فهاتوه بعد صلاة الفجر! نسأل الله السلامة.
فهذا المقارن ذكر في المقابل أيوب، يقول: كان إذا صلى العشاء يقوم إلى الفجر يصلي! وهذه هي المقارنة الصحيحة التي بها نعرف الفرق بين أحوال القوم، فهذا يجادل ويظن أنه على الحق، ولا تظنوا أنه يعتقد أن جداله بالباطل، بل يظن أنه ينصر الحق، ويظن أن هذا أعظم الجهاد، وأنه أعظم من الجهاد بالسيف، ويرى أنه أعظم أجراً من أيوب السختياني الذي يقوم من العشاء إلى الفجر يصلي، بل يحقر هذا الاتجاه والسلوك، وهذا ما يفعله كثير من المتحذلقين والمجادلين في عصرنا ممن يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وممن قد ينتسبون إلى الدعوة إلى الله، تجد كلامهم ثرثرة ولا يملون من الثرثرة، ولو وجدوا من يسهر معهم ويواصل الكلام في الأمور والإشكالات التي لا يقدر عليها إلا العلماء الفحول، ومع ذلك تجد هذا الصنف من الذين يحبون الكلام وعلم الكلام يضيعون وقتهم ووقت الأمة في صراعات كلامية، وتفريخ عاطفي لا قيمة له.