وكذلك ابن أبي الحديد الفاضل المشهور في العراق، كان على طريقة الفلاسفة والصوفية، والفلاسفة والصوفية مع أنهم يزعمون حينما خاضوا في أمور الاعتقاد وأسماء الله وصفاته أنهم يسعون إلى تنزيه الله عز وجل حتى نفوا ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، مع ذلك يخاطبون الله كأنهم يخاطبون المخلوق، كما في أبيات ابن أبي الحديد، ففيها يخاطب ربه وكأنه يخاطب أحداً من المخلوقات، يقول: فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري سافرت فيك العقول فما أي: عقول الفلاسفة والذين أرادوا أن يخوضوا في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير علم.
(فما ربحت إلا أذى السفر) أما المؤمنون الذين علقوا قلوبهم بالله وآمنوا بالله كما يليق بجلال الله عز وجل؛ فإنهم لم يشعروا بأذى هذا السفر، بل تلذذوا بلذة السفر إلى الله عز وجل.
(فلحى الله الألى زعموا): وهنا يدعو على نفسه وعلى أمثاله، فيقول: فلحى الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر وكلمة (المعروف بالنظر) تأكيد على أنه يقصد المتكلمين؛ لأن المتكلمين قالوا: إن الله يعرف بالنظر، بمعنى: أنه لا يمكن أن تعرف الله حقيقة المعرفة إلا بفكرك، ولا تعول على الفطرة ولا على الوحي ولا على آيات القرآن والسنة ولا على ما تربيت عليه من نهج الهدى ودين الفطرة الذي نشأت عليه بين والديك والمسلمين، إنما عليك أن تنظر وتتفكر، فلذلك أغلب المتكلمين قالوا: أول واجب على العبد إذا بلغ سن الرشد أن ينظر ويتفكر: من ربه؟ وهل صحيح أن الرب هو الخالق؟ فإن كان هو الخالق فما صفاته وما أفعاله؟ إلى آخره.
ولا يعولون على العبادة، بل يقفون عند قول: هل هو موجود أم غير موجود؟ وإذا كان موجوداً، فهل هو خالق أم غير خالق؟ فينتهون إلى هذا الحد ولا يصلون إلى شيء، فيقولون: أول ما يجب على العبد إذا بلغ أن ينظر ويفكر، فلما قيل لهم: ليس أحد يستطيع أن ينظر ويفكر بتفكيراتكم ويصل إلى نتيجة، بل تتوارد عليه الشكوك فيهلك؛ قال بعضهم: إذاً: لا نقول: الواجب النظر، بل الواجب على العبد إذا بلغ أن يقصد إلى النظر، فيحاول، فإن استطاع وإلا فهو معذور، أي: يحاول أن يشك ويضطرب في عقيدته، ثم يخرج عن دين الفطرة الذي نشأ عليه.
والدين الحق الذي قرره الكتاب والسنة وعليه السلف أن الإنسان المسلم إذا نشأ بين أبوين مسلمين فإنه مستصحب لحال الإسلام، فإذا بلغ خمس عشرة سنة كتبت عليه أعماله، ويكفيه ما عرفه من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولوازم ذلك، بل حتى تجديد الشهادة لا يلزمه، فلا يلزم أن يقال له: أنت بلغت، إذاً: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه بفطرته شاهد وبتربيته شاهد وبعيشه بين المسلمين شاهد وعالم، فلا داعي لأن نجدد الشهادتين.
إذاً: فمن باب أولى ألا نلجئه إلى أن يفكر في وجود الخالق ومن الذي خلق ولماذا خلق إلى آخر ذلك من الأمور التي أراح الله عز وجل منها العباد، وكلفهم بفعل الطاعات وترك المعاصي، ولم يجعل هذه الأمور إليهم، بل جعلها من مقتضيات الفطرة السليمة والعقل السليم.
يقول: كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر يعني: النظر، أي: أن الاعتقاد لا يكون بالتفكير، يقول: إن هذا خارج عن قدرة البشر؛ لأن البشر لا قدرة لهم على التفكير في الغيبيات وأمور القدر، والأمور المعضلة التي إن لم توصل إلى التشكيك فإنها لن توصل إلى اليقين.