قال رحمه الله تعالى: [وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال، فزالوا والجبال جبال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي].
هذا الكلام للرازي يعد من أعظم الكلام في الرد على المتكلمين من لسان واحد من أكابرهم، ولا أظن أحداً ممن لم يجرب علم الكلام ويبتلى به يستطيع أن يعبر هذا التعبير المؤثر البليغ في رد الكلام وفي وصف أهله وحالهم.
فالذي عانى ويعاني غير من لم يعان ولم يجرب، ولو تأملنا معاني هذه القصيدة لوجدنا فعلاً معاني صادقة في الوصول إلى هذه النتيجة المؤلمة، وهي الحيرة والاضطراب والندم الشديد، ولقد -والله- نصح المتكلمين بنصيحة عظيمة من مجرب.
ويعد الرازي -بدون منازع- المؤسس الأول لأصول الكلام منذ عصره إلى يومنا هذا، ولم يأت بعده من يفوقه ولا من يقرب منه، ولا يزال المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية يعيشون على أصوله وعلى مبادئه التي قررها.
وكتبه شاهدة لذلك ومن أبينها (تأسيس التقديس)، فإنه أسس فيه مناهج أهل الكلام التي اعتمدوا عليها بعده، ومع ذلك وبعد عمر طويل أفناه في خدمة الكلام وأهله وفي الكتب المطولة في الفلسفة وعلم الكلام؛ ينتهي إلى هذه النهاية، ثم ينصح قومه، فيقول: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.