قال رحمه الله تعالى: [كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه: (تهافت التهافت): ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟!].
قول ابن رشد هذا في الحقيقة قاعدة عظيمة، قال بها رجل عاش الفلسفة دهراً من عمره، بل إنه بذل مهجته وخلاصة عمره ووقته في خدمة الفلسفة والدفاع عنها، حتى إنه رد على الغزالي الذي يسمى بالحجة، رد عليه حينما كتب كتابه المشهور: (تهافت الفلاسفة)، فرد ابن رشد عليه بتهافت التهافت؛ انتصاراً للفلسفة ولأهلها وأصحابها، وانتهى به المطاف إلى إعلان إن الفلسفة لا فائدة فيها البتة، بل إنه نفى أن يكون هناك من قول الفلاسفة كله ما يعتد به على الإطلاق، لذلك قال هذه الكلمة العظيمة التي لو قيلت من خصوم الفلاسفة لقيل بأنها مبالغة، ولقيل بأنها تهور وحكم قاس.
لكن قالها فيلسوف عاش الفلسفة وانتصر لها، وكتب فيها وعرفها عن جدارة عند المتخصصين، وأخيراً يعلن الإفلاس ويقول قوله هذا، بل إنه ألف كتاباً عظيماً في الرد على المتكلمين، وهذا الكتاب موجود، ويعتبر أعظم رد على المتكلمين، حتى أفاد منه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ونقلا عنه كثيراً، مع أنَّه فيه ما فيه، لكنه نظراً لأنه مارس الفلسفة وعايشها، ثم مارس علم الكلام وعايشه؛ رد على هؤلاء وهؤلاء، وانتصر للحق، وإن كان لم يوفق في كثير من الأمور، لكنه أجاد في إقامة الحجة العقلية على المتكلمين والفلاسفة ورد عليهم، ونسف أصولهم بمعاولهم التي بنوا بها تلك الأصول؛ وذلك في كتابه المشهور: (الكشف عن مناهج الأدلة)، وهذا الكتاب مطبوع وموجود، ويعتبر في رده على المتكلمين أعظم رد عرف إلى يومنا هذا بعد رد شيخ الإسلام ابن تيمية.
يقول في عبارته المشهورة: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟! بمعنى: أن كل ما قيل في الإلهيات غير ما في الكتاب والسنة لا يعتد به، وهذا حق، والإلهيات هي تعبير عن أمور العقيدة التي تتعلق بالله عز وجل في ذاته سبحانه، وأفعاله وصفاته وأسمائه، ومن الإلهيات: الأخبار الإلهية الأخرى التي وردت فيها أمور الغيب.
وابن رشد هذا رحمه الله حسنت حاله في آخر حياته، وانكب على الفقه، وطلب العلم الشرعي، وأجاد فيه وأفاد وصنف، وكان يكتب فيه مصنفات جيدة ومفيدة إلى يومنا هذا، ومن أهمها (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه في المذاهب، وفي ترجيح الأقوال، وهو من أحسن الكتب التي يقرؤها طلاب العلم اليوم.