قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً، شاكاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً): (يتذبذب): يضطرب ويتردد.
وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله تعالى حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، فيئول أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه تهافت التهافت: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟!].
(تهافت التهافت) رد به ابن رشد على الغزالي، فـ الغزالي الملقب بحجة الإسلام عاش في أول نشأته مع الفلسفة والفلاسفة وأعجب بهم، ثم ترك الفلسفة واعتنى بعلم الكلام على مذهب المتكلمين، وفي هذه الأثناء رد على الفلاسفة بكتاب اسمه (تهافت الفلاسفة)، فرد عليه ابن رشد الحفيد بكتاب سماه (تهافت التهافت)، انتصاراً لمذهب الفلاسفة، وكل من الرجلين ترك الفلسفة وأعرض عنها، بل ترك حتى علم الكلام وأعرض عنه، فـ ابن رشد الذي كان ينتصر للفلاسفة ترك الفلسفة، وأعرض عنها وحذر منها، والغزالي الذي كان فيلسوفاً ترك الفلسفة، وبعد أن انتقل إلى علم الكلام وعاش فيه فترة من عمره تركه ونزع إلى التصوف، ثم لما تعمق في التصوف وجد فيه زلات كباراً، وأدرك أن فيه ما قد يوصل إلى الكفر، فأعرض عن هذه المذاهب كلها، وسلم تسليم العجائز، ومات على هذا المذهب.
أما ابن رشد الحفيد فقد أكب على الفقه والعلوم الشرعية، وترك الفلسفة، ولم يكن يوماً من الأيام متكلماً، بل كان يرد على المتكلمين في حياته الأولى الفلسفية، وفي حياته الثانية عندما كان فقيهاً ينزع إلى الفقه، لكن مع ذلك يقول ببعض مذاهب المتكلمين في الصفات وغيرها، بما يخالف أصول المتكلمين التي قننوها وأصلوا فيها بدعهم في التأويل والتعطيل.
وله في ذلك رد عظيم جداً وجيد لا يكاد يوجد عند غيره، حتى كان شيخ الإسلام ابن تيمية ومن جاء بعده كثيراً ما ينقلون عن ابن رشد في رده على أهل الكلام، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه ما رئي أقوى في رد علم الكلام والرد على أهله من كلام ابن رشد.
والكلام هنا ممتد، وبعضه مرتبط ببعض، لكن سنستعرض بعض المسائل، ولعلنا نعيد الدرس مرة أخرى، فأرجو ألا ننسى؛ لأنه مترابط يحتاج إلى وقت طويل.
والكلام على المتكلمين أمر يحتاج إلى الرجوع إلى أصول أهل السنة والجماعة، وما خالفها من أصول المتكلمين؛ لإثبات التذبذب والشك والحيرة والوسواس والتكذيب والجحود الذي وقع فيه المتكلمون وأشار إليه الشارح هنا.
ومن أراد أن يستفيد ويستعجل الفائدة فليرجع إلى درء التعارض لشيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الأول صفحة (159) وما بعدها، فسيجد العجب العجاب، فما هذا إلا خلاصة موجزة جداً مما وجد في ذلك الكتاب.