وأخيراً: ثبت بالاستقراء التاريخي -وهذا أمر قاطع-: أن علم الكلام لم يأت بخير، فمنذ أن بدأ أهل الأهواء يشتغلون بعلم الكلام فتحوا على المسلمين أبواباً من الشر: أولاً: من حيث إدخال الشبهات والشكوك على طوائف المسلمين، فضلوا وخرجوا عن السنة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
ثانياً: أشغلوا أهل العلم بما هو أولى، فكم من الطاقات والجهود -جهود أهل العلم- قد بذل! بل إن مما بذلوه أموالهم وأرواحهم في سبيل حماية العقيدة، والتصدي لأهل الكلام وأهل الباطل وأهل الهوى؛ الأمر الذي صرف المسلمين عما هو أهم من تأصيل العقيدة ونشرها، والاهتمام بتربية المسلمين وإعدادهم، والاهتمام بالجهاد، وغير ذلك.
فالطاقات التي أهدرت في سبيل دفع هذه الشرور من علم الكلام وغيره من السلف وأئمة المسلمين لا تكاد تتصور، فبعض العلماء قد يكون أفنى عمره إلا القليل في سبيل التصدي لهذه الآفات، وهذه المصائب التي جرها علم الكلام على المسلمين.
ولنستعرض على سبيل المثال أنموذج الإمام أحمد في أعظم محنة امتحن بها في حياته، وهي أعظم محنة في تاريخ الإسلام بعد محنة الصحابة، وهي المحنة في قضية خلق القرآن، فهي قضية باطلة من منشئها، وابتليت الأمة بها بلوى عظيمة، فأشغلتهم عن الجهاد، وأشغلتهم عن العلم الشرعي، وأشغلتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشغلتهم عن تحقيق أمر الله ووعده، ووقع بذلك من الشر العظيم ما بقي جراحاً في الأمة إلى يومنا هذا.
ومثال آخر لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ما أعطاه الله من طاقات ومواهب، فقد قضى تسعين في المائة من عمره وحياته في الرد على أهل الأهواء، وقد جاهد الجهاد العملي بعض الوقت، لكن شغله جدال أهل الكلام والتأليف فيهم، والتصدي لأهوائهم، وشغل أكثر وقته، حتى نسي نفسه ونسي شيئاً من الأمور الضرورية، ولو انشغل بتأصيل العلم الشرعي -مع أن الله نفع به في التأصيل نفعاً عظيماً- لأثمر ثمرة عظيمة، مع أنه بذل خيراً، لكن أقصد أن هذا الخير الذي بذله كان في سبيل صد تيارات الشر التي ملأت الدنيا في ذلك الوقت.