نرجع إلى أدلة تحريم السلف لعلم الكلام، ونبدأ بما ذكره الغزالي: أولاً: قالوا: لأن هذا الأمر سكت عنه الصحابة، مع أنهم كانوا بحاجة إليه، ولا يظن ظان أن الصحابة لم يحتاجوا إلى علم الكلام، بل احتاجوا إليه إبان الفتوح، واحتاجوا إليه قبل ذلك في جدال اليهود والنصارى والمنافقين، يعني: حدثت أمور تقتضي استعمال علم الكلام فلم يستعملوه، فأقوال النصارى في القدر كانت حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بها، وكان القرآن يتنزل في الرد عليها دون استخدام أساليب كلامية، وكذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين ومع اليهود ومع النصارى من المحاجة كان يلتزم فيه أصول الشرع والوحي، ثم ما فعله الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين، وكذلك في آخر عهد الخلفاء الراشدين واجه المسلمون أمماً كلها عندها فلسفات، وعندها قواعد كلامية، وكان من مقتضى الواقع أن يفتحوا لأنفسهم باب علم الكلام فيجادلوا اليهود بأصولهم الكلامية والنصارى بأصولهم الكلامية، والمجوس بأصولهم الكلامية، والصابئة بأصولهم الكلامية، لكن لم يفعلوا ذلك، إنما كانوا يقيمون الحجة الشرعية، ولا يجادلون إلا بحدود تلتزم بالضوابط الشرعية، ولا يتعمقون في رد أقوال الخصم، بل يردون أقوال الخصم بالأدلة الشرعية والأدلة العقلية المبنية على الأدلة الشرعية؛ لأن الأدلة الشرعية جاءت بالأدلة العقلية كما ذكر أهل العلم، وليست الأدلة الشرعية خالية من الأدلة العقلية، فما من شبهة رئيسة في الأمم قديماً وحديثاً إلا ونجد في القرآن رداً عقلياً عليها، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة.
إذاً: فلا يقال: إن الصحابة لم يواجهوا الفلسفات فيستعملوا علم الكلام، بل واجهوا الفلسفات، لكنهم سدوا باب الكلام والمراء والجدل إلا بالتي هي أحسن وبالأصول الشرعية.
إذاً: فما سكت عنه الصحابة يلزم المسلمين السكوت عنه إلى قيام الساعة، خاصة في الأمور الغيبية العقدية، وقبل ذلك ما سكت عنه الشارع، ما سكت عنه القرآن والسنة، مع أن الصحابة أعرف بالحقائق، يعني: حقائق الوحي، سواء ألفاظه ومعانيه، فالصحابة ليسوا كما يظن كثير من الناس أنهم إنما انشغلوا بالفتوح وليس عندهم تعمق في العلميات، ولا عندهم تعمق في المعارف، هذا ليس بصحيح، بل عندهم من القدرة العقلية والقدرة على التعمق ما ليس عند غيرهم، لكنهم وقفوا حيث أمروا أن يقفوا، والله عز وجل أمرهم ألا يسألوا عن أشياء، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يسألوا عن أشياء من ضمنها هذه الفلسفات وهذه الكلاميات، فهم أعرف بالحقائق -أي حقائق كلام الله وحقائق الوحي- وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم.