نرجع إلى قول السلف وأصل هذا القول وأدلته؛ فالسلف رحمهم الله كلهم يحرمون علم الكلام، فلا يظن أحد من الناس أن هناك من أهل السنة من سلف الأمة أئمة الدين وأهل الحديث من يبيح علم الكلام أبداً بإطلاق.
وقد نجد من أقوال أئمة أهل السنة ما يشعر أحياناً باستخدام علم الكلام عند الضرورة، وهذا لا يعد دليلاً على إباحة علم الكلام، بل يعد من اللجوء للضرورة، كاستباحة الميتة عند الضرورة.
وهذا أمر لا يتعلق به واجب أو مندوب، بمعنى أننا لا نستصدر له حكم، بل ولا ينبغي أن نستثنيه بقاعدة فنقول مثلاً: علم الكلام محرم إلا عند الضرورة؛ لأن الضرورة يتفاوت الناس في تقديرها، وقد يتذرع طالب علم أو متعلم بأنه وجد ضرورة لعلم الكلام، كأن يدافع عن العقيدة، ويرد شبهات المبطلين، ثم يدخل في علم الكلام فلا يخرج إلا كما خرج أساطينه بشبهات وشكوك ومرض قلوب وفساد اعتقاد.
إذاً: فلا نُعرِّض المسلمين لما يسمى بالضرورة، وإنما ترد الضرورة في أمر يلجأ إليه العالم دون تبييت مسبق؛ كما حدث لكثير من الأئمة، فـ الشافعي ناظر بعض المتكلمين واضطر إلى أن يستعمل عبارات كلامية في موقف لم يبيته من قبل.
والإمام أحمد رحمه الله استعمل بعض الحجج الكلامية وإن كانت قليلة جداً ونادرة، فقد كان وقافاً على النص، لكن استعملها من باب ضرورة الدفع لشبهة يخشى أن تنطلي على العامة، أو على الناس، أو على الحاضرين أثناء المناظرة.
فكان يدفع شبهتهم بأسلوب كلامي لضرورة طارئة ما بيتها الإمام أحمد من قبل، فقاعدته سالمة وباقية لم ينقضها إلا لضرورة طرأت.
كذلك من جاء بعدهم كشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أكثر من استعمال الأساليب الكلامية ورد علم الكلام بأصول أهله، ورد قواعد المتكلمين بعضها ببعض، وهذا أيضاً ضرورة لم تلجئ الإمام ابن تيمية ولا غيره إلى أن يجعلها فتوى، إنما اضطر إليها حينما احتسب وقته وجهده وعلمه في هذا السبيل، ولم يبح ذلك للناس أو يفتحه كقاعدة أو فتوى.
إذاً: فيبقى الأصل عند السلف وأئمة أهل السنة قديماً وحديثاً إلى يومنا هذا أن علم الكلام حرام، والاطلاع على كتبه حرام، ولا يلجأ إليه بدعوى الضرورة إلا من متخصص في موقف يعرض له، فيستعمل أساليب كلامية، أو يطلع على كتب أهل الكلام للرد عليها، فهذا أمر يقدره العالم المتمكن، ولا يكون بمثابة الفتوى أو المنهج الذي يقرر كما يميل إلى ذلك بعض طلاب العلم عن جهل في عصرنا الحاضر.