المسألة الرابعة: أن النافع من العلوم الشرعية هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أما العلوم الدنيوية فإنها تضبط في عموماتها بالشرع في كونها غايات أو وسائل، وكونها -مثلاً- تفيد أو لا تفيد إلى آخره، فهذه تضبط بضوابط الشرع، لكنها أمور علمية مبنية على عالم الشهادة، وليست من الأمور التي وردت فيها نصوص الشرع تفصيلاً، وإنما وردت فيها نصوص الشرع على وجه الإجمال، فالعلوم الطبيعية والعلوم المادية ليست محكومة بنصوص جزئية، إنما تحكم بغايات الشرع وقواعد الشرع ونصوص الشرع العامة.
ثم إن هناك من العلوم الدنيوية ما يكون فيه نوع اشتباه بالعلوم الشرعية، تختلط مسائله وأصوله وقواعده وجزئياته بالعلوم الشرعية، وهذا لابد أن يكون للشرع فيه رأي حتى في بعض تفصيلاته، وهو ما يسمى بالعلوم الإنسانية، وبعض المفكرين أو بعض المثقفين حتى من المسلمين يزعم أن العلوم الإنسانية لا دخل للشرع فيها، كعلوم الاجتماع وعلوم السياسة وعلوم الاقتصاد وعلوم التاريخ والحضارة وسائر العلوم الإنسانية، وأنها إنما تحكم بقواعدها عند المتخصصين، وهذا خطأ فادح انبنى عليه في العصر الحاضر أخطاء كثيرة في مفاهيم المسلمين وأعمالهم دولاً وشعوباً وترتب عليه أخطاء قد يصعب علاجها إلا بعد سنين، وسبب ذلك عزل العلوم الإنسانية عن علوم الشرع، فالعلوم الإنسانية ليست كالعلوم الطبيعية والمادية، بل لابد من أن تحكم بالشرع جملة وتفصيلاً، ولابد من أن تنطلق من منطلقاته الأساسية في قواعدها وفي أصولها وفي أهدافها وفي مسائلها الجزئية وفي أحكامها وفي تطبيقاتها، لابد أن تنظم بأصول الشرع والفقه الإسلامي، والفقه ثري بهذه الأمور، بل أغلب الفقه الإسلامي -إذا استثنينا منه العبادات- وجله في العلوم الإنسانية، كعلوم الاجتماع وأحكام الأسرة وعلوم الاقتصاد والبيع وعلوم السياسة، والأحكام السلطانية وغيرها، فالعلوم الاجتماعية في عصرنا الآن مفصولة عن أحكام الشرع التفصيلية، وعزلها عن الفقه يعتبر كارثة أوقعت المسلمين في كثير من الأخطاء والمفاهيم الخطيرة التي أدت إلى الوقوع في انحرافات يصعب علاجها إلا بعد حين.