قوله: (وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله).
هذا -في الحقيقة- جزء من عمل المرسلين، وليس هو أول دعوتهم، وليس هو المفتاح وإن كان جزءاً من مفتاح الدعوة؛ لأنا إذا تأملنا آيات الله -كما قال أئمة السلف الذين قرروا التوحيد- وتأملنا الأحاديث وتأملنا سير المرسلين وما جاء به الرسل مما ذكره الله عنهم فسنجد أن أول ما يدعون إليه هو عبادة الله، وهي مفتاح الرسالات، ويتبع ذلك بالضرورة توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، لكن لم يكن أول ما جاءوا به هو التعريف بالله فقط؛ لأن معرفة الله يدركها أكثر الأمم حتى الأمم الكافرة والمشركة والأمم الضالة، والله سبحانه وتعالى أرسل المرسلين إلى أمم تعرف الله ولا تنكره، إلا أمماً شذت كفرعون وقومه فقط، فهم الذين ورد في القرآن أنهم جحدوا الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء يستثنون، أما بقية الأمم فلم يرد دليل قاطع ولا دليل ظني على أنها كانت لا تعرف الله، إنما كانت تعرف الله وتعبد غيره، فالتعريف بالله دخل ضمن الدعوة إلى توحيده، وإلا فالهدف والغاية الأولى ومفتاح الدعوة للمرسلين هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ونبذ الشرك.
قال رحمه الله تعالى: [ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان: أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
والثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم].
عندنا ثلاثة أصول جاء بها المرسلون، وهذه الأصول تندرج فيها أمور الدين كلها، فالأصل الأول -كما أشار إليه ولم يذكره نصاً- هو عبادة الله تعالى، وهو الاعتقاد؛ لأن قمة الاعتقاد هي عبادة الله بتوحيد الإلهية، أما توحيد الربوبية والأسماء والصفات فإنه من مستلزمات العبادة لله تعالى بحق، فأول الأصول التي جاء بها المرسلون وأعظمها، والذي ينبغي أن يكون أصلاً لكل دعوة ولكل داعية: عبادة الله تعالى وحده ونبذ الشرك، وما يتبع ذلك من ضرورة معرفة الله تعالى بذاته وأسمائه وصفاته، وما يتبع ذلك من ضرورة الاعتراف بالربوبية لله وحده، ونتيجة ذلك وأوله وخاتمه هو عبادة الله وحده بما شرعه الله، هذا هو الأصل الأول.
الأصل الثاني: الشرائع التي تبين للناس ما يريده الله منهم على وجه التفصيل، فكل الأنبياء أتوا بشرائع، سواء منهم من أنزل عليه كتاب وشريعة مستقلة ومن كان تابعاً لشرع من سبقه كالكثير من النبيين، فالرسل أتوا بشرائع وكتب منزلة، والنبيون إنما جددوا شرائع من سبقهم من المرسلين وعملوا بها، وربما يكون بعض الأنبياء قد أنزلت عليهم شرائع، والله أعلم، وهذه مسألة خلافية كما هو معروف، والمهم أن الأصل الثاني الذي جاء به جميع المرسلين هو الشرائع الهادية للناس لأن يعبدوا الله على شرعه، وأن يطيعوا أمره ويجتنبوا نهيه، والأوامر والنواهي التي جاءت عن الله تعالى في الشرائع تفصيلية وليست إجمالية.
الأصل الثالث: البشارة والنذارة، فكل النبيين جاءوا بهذا الأصل، كل نبي بشر قومه المطيعين بوعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين في الدنيا وبالجنة في الآخرة، وكل نبي توعد قومه الذين كفروا بما توعدهم الله به في الدنيا وبما توعدهم الله به في الآخرة.
إذاً: فجميع الأنبياء جاءوا بهذه الأصول الثلاثة: بالتوحيد أولاً، وبالشرائع ثانياً، وبالوعد والوعيد ثالثاً.
قال رحمه الله تعالى: [فأعرف الناس بالله عز وجل أتبعهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه؛ ولهذا سمى الله ما أنزله على رسوله روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فقال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر:15]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
فلا روح إلا فيما جاء به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به، وهو الشفاء كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] فهو -وإن كان هدى وشفاءً مطلقاً- لكن لما كان المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فلا هدى إلا فيما جاء به].