Q جرى مرة كلام بين الصابوني المعاصر وبين بعض طلاب العلم، فقال له طالب العلم: إن الصفات تمر كما جاءت، والقول في السبع الصفات كالقول في سائر الصفات، فرد عليه: أنتم تؤولون المعية ولا تمرونها كما جاءت، بل تفسرونها وتؤولونها، فمن الذي يحل لكم تأويل هذه الصفة ويحرم عليكم تأويل السبع الصفات؟! فحار الشاب ولم يجد جواباً، فما الرد عليه؟
صلى الله عليه وسلم هذه مشكلة إذا كان الشباب من طلبة العلم تصدوا للحوار، ثم يحارون في هذه المسألة اليسيرة، فمعنى هذا: أنهم أخطئوا حينما دخلوا في حوار يعرفون أنهم قد يصلون فيه إلى طريق مسدود، وهذه الشبهة تذكرني بشبه ظاهرة الآن بدأت تكثر في الحوار، خاصة مع الرافضة، فترى شاباً يأخذه الحماس فيدخل في الحوار مع صاحب هوى بدون استعداد علمي، أو بدون رجوع إلى أهل الاختصاص، وهذا خطأ، فهذا سيترتب عليه إضرار بالسنة وأهلها.
فلا ينبغي لأحد أن يحاور أحداً من أهل الأهواء إلا بعد الاستعداد العلمي الكامل، أو يحيل على المتخصصين، أو يترك، أو يشير إلى الأمور إجمالاً بدون دخول في التفاصيل، أما الدخول في التفاصيل فهو خطر.
أما هذه المسألة فالرد عليها واضح، وقد أثيرت الشبهة من قديم الزمان، وليس الصابوني هو الذي أثارها، وهذا دليل على أن هؤلاء لم يقفوا على أقوال أهل العلم، فأهل العلم قالوا: إن مسألة المعية لا تقاس بالصفات؛ لأمور كثيرة نلخصها في أمرين: الأمر الأول: أننا حينما قلنا بأن معية الله لخلقه معية بعلمه، وهي المعية العامة، أو معية برعايته وحفظه، وهي المعية الخاصة؛ فهذا لا يعني أننا عدلنا عن ظاهر اللفظ إلى معنى آخر لمجرد عقولنا أو بقرائن، بل عدلنا عن ظاهر اللفظ بمقتضى نصوص أخرى، وهي نصوص الفوقية، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وقوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وغير ذلك من نصوص الفوقية والعلو والاستواء.
فهذه النصوص تدل على أن الله عز وجل ليس مخالطاً لعباده، ولا مماساً لهم، فكان تفسير النص بناءً على نص آخر، أما الذين أولوا فما أولوا نصاً بنص، بل أولوا النص بعقولهم.
الأمر الثاني: أن المعية ليست صفة مستقلة بذاتها، فالمعية لا تتعلق بذات الله عز وجل مباشرة، وإنما تتعلق بما يمكن أن نسميه الحال بين الخالق والمخلوق، فمعنى أن الله عز وجل مع خلقه أنه معهم بتدبيره وعلمه، وليس هذا من باب التكلف في تفسير النص كما يفعلون هم، إنما من باب تفسير النص بالنص؛ لأنه لو تركت نصوص المعية بدون ردها إلى نصوص أخرى لأدت إلى القول بالحلول والممازجة، وأدت إلى ما يقول به الصوفية من أنهم يجلسون مع الله عز وجل، أو يجالسونه، أو أنهم يكلمونه! أو ما يقوله اليهود من أنهم يعاملون ربهم كما يُعامَل الواحد منهم! فهذا خطأ ينبني عليه انحراف -بل كفر- في الاعتقاد.
ثم إن نصوص المعية عندما فسرها السلف لم يخرجوا عن مقتضى ظاهر النص في إثبات المعية؛ لأن قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:5] ونحوه من ألفاظ المعية فسروها بما لا يؤدي إلى المعنى الذي أدى إلى القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
ثم إن مسألة إثبات معية الله عز وجل لخلقه لولا أن الناس تكلموا فيها وجاءوا بمعانٍ باطلة في معنى المعية فقالوا بالممازجة والمخالطة؛ لما تكلم أهل السنة بردها إلى نصوص العلو على النحو الذي صار الآن؛ لأن الناس كانوا مسلمين بمعنى المعية على ما يليق بجلال الله عز وجل، وأنها معية حقيقية.
فأهل السنة ما قالوا في المعية على نحو ما قالوا وردوها إلى نصوص العلو إلا عندما ظهرت شبهات أهل الأهواء، وإلا فالأصل أن تبقى على ظاهرها دون ردها إلى النصوص الأخرى، وذلك أن المعية ما دامت متعلقة بذات الله عز وجل وبعلمه وإحاطته وتدبيره؛ فلابد من أن يفهم العاقل أنها معية حقيقية على ما يليق بجلال الله، وأن الله مع خلقه حقيقة ولو لم يكن بذاته.
وذلك أن عظمة الله عز وجل لا تقاس بالمخلوقات حتى يتصور بعض المتوهمين مسألة المسافات أو القرب الزمني أو القرب المكاني في المعية بين الله وخلقه، فالله عز وجل أعظم من كل شيء، والمخلوقات أمام عظمة الله عز وجل لا تكاد تساوي شيئاً، فالحقير أمام العظيم لا يمكن أن يقارن بالمسافات ولا بتقديرات المخلوقين.
ولكي نقرب مفهوم السلف القديم للمعية نضرب مثلاً بالمخلوقات، ولله المثل الأعلى، وليس كمثله شيء، فالمخلوقات نفسها تتفاوت المعية بينها تفاوتاً عظيماً، فلو تصورنا أصغر الشيء من المخلوقات التي يشاهدها المخلوق، كذرات من التراب جعل الإنسان أمامه ذرة منها في أقصى طاولة من جهة، وذرة أخرى في أقصى الطاولة من الجهة الأخرى؛ فنجد أن بينهما بعداً شاسعاً، لكن بالنسبة لك أنت لا يعتبر البعد شاسعاً؛ فبإمكانك أن تمد يدك إلى هذه وهذه وتجمع بينهما.
فمسألة المعية بين العظيم والحقير لا يتكلم فيها، ولا ينبغي للناس أن يخوضوا فيها، ولذلك ينبغي أن نقول: معي