فساد التأويل بغير دليل أو قرينة

قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وتفسيره على ما أراد الله وعلمه) إلى أن قال: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا) أي: كما فعلت المعتزلة بنصوص الكتاب والسنة في الرؤية، وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله عن مواضعه.

فالتأويل الصحيح: هو الذي يوافق ما جاءت به السنة، والفاسد: المخالف له، فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق، ولا معه قرينة تقتضيه؛ فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد؛ لم يكن بياناً ولا هدى، فالتأويل إخبار بمراد المتكلم لا إنشاء].

يقصد بذلك أن نصوص الغيب التي وردت في كلام الله عز وجل -خاصة ما يتعلق بصفات الله- جاءت محكمة، وهذا معلوم بالضرورة؛ لأنها ليست قابلة للاجتهاد، ومعنى كونها جاءت محكمة: أنها جاءت على ظاهرها على ما يليق بجلال الله عز وجل، وعلى ما يليق بالأمور الغيبية التي لا تقاس بعالم الشهادة.

إذاً: فالذين أولوا خرجوا عن مقتضى مراد الله عز وجل، ودليل ذلك: أنهم حينما أولوا أولوا لشبهات خارجة عن منطوق النصوص، بل وحتى عن مفهوماتها، أي: لم يكن التأويل بسبب قرائن ودلالات توجد في النص نفسه، إنما التأويل لشبهات في أذهان المؤولين، فحينما قيل للجهمية: لم أنكرتم الأسماء والصفات؟ ما قالوا: لأنَّا ما فهمنا من النص كذا، بل قالوا: لأننا لا نفهم موجوداً يقبل التسمية والصفة إلا مخلوق محدث، أو نحو ذلك، ولأننا لا نفهم من هذه الأسماء والصفات إلا ما نفهمه في عالم الشهادة، فخوفاً من أن نقع في التشبيه نعتبر هذه الأسماء والصفات مجرد ألفاظ ليس لها معان، وأن الله لا يوصف ولا يسمى، تعالى الله عما يدعون.

وكذلك إذا قيل للمعتزلة: لم أولتم الصفات أو أنكرتموها؟ لا يقولون: لأن النصوص دلت على ذلك، أو: أولنا لقرائن تحف بنصوص الغيب تدل على تأويلها، بل يقولون: أولنا؛ لأننا لا نفهم من هذه الصفات إلا ما في المخلوقات، فمن أجل أن ننزه الله عن صفات المخلوقات نؤولها.

إذاً: جاءوا بأمور هي أوهام في أذهانهم وليست حقائق، ولا تدل عليها النصوص.

قال رحمه الله تعالى: [وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس؛ فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا وكذا؛ كان إخباراً بالذي عناه المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقا كان كذبا على المتكلم.

ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة: منها: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى، ومنها: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له، كقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]].

المقصود: أن القرينة التي جاءت تدل على إثبات الصفة لله عز وجل، يعني: حف بكلام الله عز وجل ما يدل على أنه أراد حقيقة الصفة على ما يليق بالله عز وجل.

فقوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فيه تأكيد لصفة الكلام، فقوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ) يدل على وجود الكلام، وقوله تعالى: (تَكْلِيمًا) يدل على تأكيد الكلام حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله.

قال رحمه الله تعالى: [و (إنكم ترون ربكم عياناً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)].

هنا دلت القرينة على أن الرؤية رؤية عينية، وهي قوله: (عياناً)، هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين وغيرهما متواتر بمجموع أسانيده وألفاظه، والرؤية لا تفهم إلا برؤية بالعين، لكن جاءت قرينة مؤكدة على أن الرؤية عينية، وهي قوله: (عياناً)، يعني: بالعيون، فالله عز وجل ينعم على عباده في الجنة بأن يروه بأعينهم.

قال رحمه الله تعالى: [فهذا مما يقطع به السامع له بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة؛ كان صادقا في إخباره، وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه؛ فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه، وهو تأويل بالرأي، وتوهم بالهوى.

وحقيقة الأمر: أن قول القائل: نحمله على كذا، أو: نتأوله بكذا، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده دفع معناه، وقال: أحمله على خلاف ظاهره.

فإن قيل: بل للحمل معنى آخر لم تذكروه، وهو: أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره، ولا يمكن تعطيله؛ استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالة لا ابتداء.

قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده، وهو إما صدق وإما كذب، كما تقدم، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده، بل يقرن بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة، ونحن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015