قال رحمه الله تعالى: [وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في جهة].
هذه مسايرة اضطرارية لأهل الكلام، والسلف قاعدتهم: أنهم يحرمون مثل هذا الكلام إلا لضرورة، ومن الضرورات التي ألجأتهم إلى هذا الكلام: أن الناس ابتلوا بمثل هذه الشبهات في أيام طفرة المعتزلة وانتشار أفكارهم، ثم بعد ذلك حينما كثر علم الكلام وكثرت كتبه، وصار يدرس ويعلم في حلق التعليم في كثير من البلاد الإسلامية؛ صار الأمر يوجب ويلزم بيان خطأ هؤلاء في هذه المسائل العقدية الحساسة الخطيرة.
وكلامه هنا بقوله: [وما ألزمهم المعتزلة]: يشير إلى متكلمة الأشاعرة والماتريدية الذين يقولون: إن الله عز وجل يرى لا إلى جهة أو إلى غير جهة، والعبارة واحدة.
يقول بأن هذه فلسفة أصل منشئها كلام المعتزلة وشبهاتهم وقواعدهم العقلية، والمعتزلة -مع أنهم يعتمدون على القواعد العقلية- يردون هذا الكلام.
وقوله: [وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام] يعني بالإلزام أنهم قالوا: حينما قلتم: يرى إلى غير جهة جانبتم العقل والمنطق والقواعد وأصول الاستدلال.
وقالوا لهم: إن أخذتم بالقواعد العقلية التي أخذنا بها، وأخذت بها الجهمية، وسائر الفلاسفة؛ فيلزمكم أن تقولوا: لا يرى.
وإذا أخذتم بالنصوص الشرعية التي أخذ بها أهل الحديث فيلزمكم أن تقولوا: يرى، وكلمة: (لا إلى جهة) لا معنى لها؛ لأنه لا يعقل أن يرى إلى غير جهة، فإن أثبتم الرؤية فأثبتوا العلو كما أثبته أهل السنة، وإن نفيتم الرؤية نفيتم العلو، وإن نفيتم العلو نفيتم الرؤية، فهما متلازمان، وهذا صحيح من الناحية المنطقية بالنسبة لقواعدهم التي يتحاكمون إليها.
ثم قال: [لم يلزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه]، يعني: وافقوهم في نفي الفوقية لله عز وجل، ونفي العلو، وقالوا كلاماً ممرضاً للقلوب، ولولا أن المؤلف ساقه ما أجزت لنفسي أن أنطق بكلمة منه.
لكن أقول: ما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه عز وجل لا داخل العالم ولا خارجه، وهذه فلسفة ليس لها معنى.
ولا يجوز في حق الله عز وجل مثل هذا الكلام، لا يقال: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا أنه داخل العالم أو خارجه بالمعنى المفهوم في عالم الشهادة؛ لأن مسألة داخل وخارج، ولا داخل ولا خارج، هذه تصورات مبنية على تخيل الإنسان للمخلوقات، فما هو داخل وخارج إنما هو علم الشهادة، والله عز وجل أعظم وأجل، وهو سبحانه ليس كمثله شيء، وهو سبحانه بكل شيء محيط، وهو الحي القيوم.
فلذا لا يجوز مثل هذا الكلام نفياً ولا إثباتاً، بل يثبت ما أثبته الله لنفسه، وينفى ما نفاه الله عن نفسه، ولا يجوز للناس أن يزيدوا على ذلك؛ لأن كل كلام عن الله عز وجل بنفي أو إثبات أكثر مما في النصوص إنما هو قول على الله بغير علم، وتحكم في أمر الغيب، وتشبيه لله بخلقه؛ لأن الإنسان إذا نفى أو أثبت فلا ينفي أو يثبت إلا بناءً على معلومة مستقرة في ذهنه، والإنسان ليس لديه في النفي والإثبات معلومة إلا من خلال علم الشهادة، وما عدا ذلك غيب لا يستطيع أن ينفي فيه أو يثبت إلا ما نفاه الشرع أو أثبته، وإذا كان هذا في سائر أمور الغيب فكيف بالله عز وجل؟!