قال المصنف رحمه الله تعالى: [وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه، وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟! ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، فإما أن يكون مكابراً لعقله، أو في عقله شيء، وإلا فإذا قال: يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة].
في هذه المسألة يرد على المتكلمين من الأشاعرة ونحوهم الذين أثبتوا الرؤية بكلام لم يعهد عن السلف ولم يرد في النصوص، بل يناقض النصوص، وسبب ذلك جدالهم للجهمية والمعتزلة الذي ألجأهم إلى مثل هذه المقولات، وأي إنسان يصاب بالجدل لا بد من أن يتأثر بأقوال خصومه؛ لأن الجدل -خاصة في أمور الغيب وأمور الدين التي لا تؤخذ إلا من النصوص- لابد من أن يؤدي بصاحبه إلى أن يسلك مسالك عقلية لا يتخلص منها ويأخذ من خصومه ما لم يكن له على بال، بل يلزم نفسه في الخصام والجدل والتمحل بأمور قد تخرج عن أصول العقيدة الصحيحة، فهؤلاء المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية أثبتوا الرؤية؛ لأنهم ليسوا ممن ينكر ما ثبت بنص الشرع، بل يثبتون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من حيث تقرير العقيدة يقررون العقيدة بالعقول، فأصول العقيدة يقررونها بالعقول، فلما لجئوا إلى تقرير الرؤية بالعقل مع الشرع، والعقل لا طاقة له بمثل هذه الأمور، ولا يمكن أن يطلع الغيب؛ اضطروا إلى أن ينفوا أشياء لم تنف بالنصوص وأن يثبتوا أشياء لم تثبت في النصوص، فمما نفوه مما لم يرد في النصوص أن قالوا: إن الله يرى لا إلى جهة أو إلى غير جهة، وسبب ذلك أنهم تأثروا بالمعتزلة في نفي العلو بالذات لله عز وجل، ونفوا الاستواء كما يقره السلف، ونفوا الفوقية كما تفهم من الشرع، فلما نفوا العلو أو أولوه ونفوا الفوقية أو أولوها، وكذلك الاستواء اضطروا حين أثبتوا الرؤية إلى أن يقولوا: يرى إلى غير جهة؛ لأنهم لو قالوا: إن الله عز وجل يراه المؤمنون ولم ينفوا الجهة للزم من إثبات الرؤية إثبات العلو وإثبات الفوقية؛ لأن كل ما يرى لابد من أن يرى إلى جهة مقابل الرائي، وليس المقصود بالجهة الجهة المخلوقة، إنما الجهة التوجه، توجه البصر، فالبصر لا بد من أن يتوجه إلى شيء، والله عز وجل شيء، وله وجود ذاتي سبحانه، فإذا رأته أبصار المؤمنين يوم القيامة في الجنة فإنما يرونه فوقهم، تعالى الله عما يزعم الذين نفوا العلو، فالله عز وجل يراه المؤمنون من فوقهم، والفوق كمال، والعلو كمال، لكن لا يلزم من إثبات الفوقية والعلو أن نلتزم لفظ (جهة) إلا على سبيل قصد العلو بذاته أو الفوقية بذاتها.
أما الجهة التي هي من المخلوقات فلا تليق بالله عز وجل؛ لأن الله عز وجل لا يحويه شيء من مخلوقاته، فهو فوق جميع الخلق، ومن هنا تلازم إثبات الرؤية مع إثبات الفوقية والعلو، كما أنه أيضاً يجتمع في الرؤية تعلق القلب وتعلق البصر بالله عز وجل.
فالأشاعرة والماتريدية من أهل الكلام -لا المحدثون والفقهاء- الذين قالوا: يرى إلى غير جهة.
رد عليهم فقال: هل تعقل الرؤية بلا مقابلة؟! وليس المقصود أن نشبه مقابلة رؤية المخلوق للخالق بمقابلة رؤية المخلوق للمخلوق، بل من المقصود هنا أن هناك أمراً يفهم من النص بالضرورة، وهو أن المؤمنين إذا رأوا ربهم -والله عز وجل فوق سماواته- فإنهم يرونهم من فوقهم.
ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، ويقصد الشارح بقوله: (لا في جهة) إلى غير جهة، ولا يقصد بـ (في) هنا الظرفية، وإلا فالله عز وجل ليس في جهة بمعنى أن هناك جهة تحويه، تعالى الله، إنما جهة العلو، فالعلو جهة والفوقية جهة، فمن هنا لا يصح أن يقال: يرى لا في جهة؛ لأن هذا نفي للعلو والفوقية، وكل هذا الكلام لا يليق بالمسلم أن يقوله في حق الله عز وجل، لكن السلف تكلموا به اضطراراً لنفي شبهات قال بها طائفة من المتكلمين حتى فتن بها العامة، فكان لا بد من الرد من قبل طلاب العلم.
فيقول: إذا قالوا: يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته؛ فهذا افتراض جدلي يرده كل من سمعه بفطرته السليمة، أي: يرد بالفطرة بعيداً عن التقعيدات والتفلسف، ويحكى أن الجويني كان يقرر على المنبر تأويل الاستواء لله عز وجل وتأويل الفوقية الذاتية والعلو، فأراد أحد الطلبة أن يرد عليه بأيسر أسلوب، فقال له: أخبرني عن هذه الضرورة التي يجدها الداعي في قلبه إذا دعا الله عز وجل، يعني ضرورة التوجه إلى الله سبحانه، فالإنسان إذا دعا الله مستحضراً ما يقول يشعر بالتوجه إلى فوق، أليس كذلك؟ على أي وضع كان قائماً أو مضطجعاً، فإذا دعا الإنسان ربه دعاءً بقلبه مستحضراً شعر بجميع مشاعره أنه يتوجه إلى فوق، بل هذا في الحيوان، فالحيوان إذا مسته ضرورة شخص بصره إلى السماء.
فالتوجه إلى الفوق فطرة فطر الله الناس عليها حين يلجئون إلى الله عز وجل.
فإثبات فوقية الله عز وجل واستوائه على عرشه إثبات