الرد على دعوى قيام الحوادث بالله عز وجل حال إثبات صفة الكلام

قال رحمه الله تعالى: [فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به, قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً، مع صريح العقل.

ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه، بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، وكما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى) ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه؛ إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائلٌ متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه فلا يثبتوا صفة غيره، فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا، وكذلك سائر الصفات].

قوله: [ولا يعرف في لغة ولا عقل قائم متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره]، هذا قول طائفة من المعتزلة وبعض المتكلمين، يقولون: إن كلام الله تعالى المقصود به ما سمعه موسى من الشجرة، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، يقولون: المقصود بكلام الله تعالى ما سمعه موسى من الشجرة، وما سمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، أو ما سمعه الناس من محمد صلى الله عليه وسلم، يزعمون بذلك أن الله لا يتكلم، فهو يقول لهم: إذا قلتم: إن كلام الله تعالى هو ما سمعه موسى في الشجرة؛ فأنتم بهذا تزعمون أن كلام الشجرة صار هو كلام الله، فهذا رد عليهم من ناحيتين: من ناحية أنهم نسبوا الكلام إلى الله تعالى حينما كان في غيره، وهذا ليس هو المقصود هنا، والناحية الثانية أنهم زعموا أن كلام غير الله تعالى كلام له، وهذا لا يجوز عقلاً؛ فإنك -ولله المثل الأعلى- لو سمعت كلاماً لإنسان في الشارع، ثم ذهبت إلى آخر في البيت وقلت له: أنت الذي تكلم في الشارع قبل قليل؛ لم يصح هذا منك؛ إذ لا يصح أن تنسب الكلام لغير قائله، فقولهم بأن كلام الله تعالى المقصود به ما خلقه في غيره -ككلام الشجرة أو كلام محمد صلى الله عليه وسلم أو كلام جبريل- قول باطل من ناحية النسبة، فكيف نثبت لله صفة الكلام، ثم نقول: المقصود بكلامه ما تكلم به غيره؟! فلا يصح هذا عقلاً، هذا هو المقصود.

قال رحمه الله تعالى: [وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أوحي لا تقوم به الحياة؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فهل يقول عاقل: إنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق؟! بل هذا كقوله: (أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك)، وكقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وكقوله: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا)، كل هذه من صفات الله تعالى.

وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها، وإنما أشير إليها هنا إشارة].

الاستعاذة بالرضا من السخط، وبالمعافاة من العقوبة فيها رد على فئتين من الناس، وليس الذي تكلموا في الصفات فحسب، بل فيها رد على المبتدعة الذين يعوذون بغير الله، والذين يتعوذون أو يلجئون أو يدعون غير الله، ثم إن فيها رداً على الذين زعموا أن هذه الصفات ما هي إلا تعبير عن مخلوقات الله تعالى الأخرى، فهو يقول للذين ينكرون الرضا والسخط -وهم جميع المعتزلة-، والذين يؤولونهما -وهم الأشاعرة والماتريدية-: إذا زعمتم أن الرضا والسخط ليسا من صفات الله تعالى، وإنما هما تعبير عن الإنعام والعقوبة -وهذا كلام الأشاعرة والماتريدية، حيث يقولون: السخط هو عقوبات الله المادية التي نراها، والرضا هو نعم الله التي نراها، والعقوبات والنعم مخلوقة- إذا زعمتم ذلك فإنه لو كان قولكم صحيحاً ما صح أن نستعيذ برضا الله من سخطه؛ إذ لا تجوز الاستعاذة بالمخلوق، إذاً: استعذنا من صفة الله بصفة الله، فهذا يؤكد جزماً أن هذه صفات لله عز وجل، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) فدل على أن الرضا صفة لله؛ لأنه لا تجوز الاستعاذة إلا بالله وأسمائه وصفاته.

إذاً: هذا دليل قطعي على أنهما صفتان لله عز وجل على ما يليق بجلال الله، وإلا لما جازت الاستعاذة بها؛ لأنه لا يستعاذ إلا بالله سبحانه وتعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015