قال رحمه الله تعالى: [قال مقاتل: لم يبعث الله رسولاً إلى الإنس والجن قبله، وهذا قول بعيد؛ فقد قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف].
كلام مقاتل له احتمال آخر غير ما فهم من كلام الشارح، فكلام مقاتل له احتمالان: احتمال أن يقصد أن الله سبحانه وتعالى لم يرسل إلى الجن رسولاً أبداً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم.
واحتمال أنه يقصد أن الله تعالى لم يرسل إلى الجن رسلاً من الإنس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يبلغون بطرق أخرى، فإذا كان هذا قصده فهو وارد، وهو قول بعض أهل العلم كما يأتي فيما بعد؛ لأن الكلام هنا مبهم.
فالحاصل أن مقاتلاً ربما لا ينفي الرسالة إطلاقاً، إنما ينفي الرسالة المشتركة بين الجن والإنسان قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر].
هذا القول لا يختلف مع القول الذي قبله، إلا أنه أكثر تفصيلاً وأرجح، فقول مجاهد ما أشار فيه إلى النذر، إنما أشار إلى أن الرسل من الإنس، وعلى هذا فإن الجن تبع للإنس، بمعنى: أن الجن مكلفون بأن يسمعوا رسل الإنس ويطيعوهم ويأخذوا تعاليمهم ويأخذوا الدين الذي جاءوا به كما أرسلوا إلى الإنس.
هذا مفهوم قول مجاهد.
وأما ابن عباس فقد ذكر زيادة هي مقتضى النصوص، وهي أنه ليس الجن مكلفين باتباع رسل الإنس فحسب، بل إن الله جعل منهم نذراً بمثابة المصلحين، يسمعون كلام رسل الإنس ثم يبلغون أقوامهم، كما أشارت إليه آيات الأحقاف.
قال رحمه الله تعالى: [وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] يدل على أن موسى مرسل إليهم أيضاً.
والله أعلم.
وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة، وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] والمراد: من أحدهما].
قول الضحاك بن مزاحم -إن ثبت- ليس عليه دليل، والآية تشير إلى أن الرسل بعثوا للجميع، والآية لها مفهوم قاطع ومفهوم محتمل: أما المفهوم القاطع فهو أن الرسل أرسلوا إلى الثقلين، وأن الثقلين مكلفون جميعاً باتباع الرسل، وأن الجن أيضاً محاسبون على ما يأتي به الرسل كالإنس، هذا المفهوم القاطع من النصوص، فظاهر قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] يفهم منه أن الجميع جاءهم الرسل، لكن هل يفهم من الآية على وجه القطع أن قوله تعالى: (منكم) يعني: من كل صنف منكم بعث الله رسلاً؟ أو أن المقصود: منكم جميعاً، أي: من أحدكم، كما قال تعالى في ذكر البحرين: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] واللؤلؤ إنما يخرج من البحر المالح؟ وهذا تفسير ظني أيضاً؛ لأنه ثبت في العصور المتأخرة أن اللؤلؤ والمرجان وجدا حتى في البحر العذب، فيكون التفسير هذا غير قاطع، فيبقى الاحتمال وارداً في أن قوله تعالى: {مِنْكُمْ} [الأنعام:130] يعني: من جنسكم جميعاً، أو من جنس كل صنف منكم.
والظاهر -والله أعلم- أن المقصود بها: من جنسكم جميعاً؛ لأنه خاطبهم بخطاب العموم ثم قال: {مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، ولا نعرف في نص قاطع أن الجن فيهم رسل يخصونهم، بل الظاهر عكسه، حيث يفهم من خبر الجن الذين جاءوا للرسول صلى الله عليه وسلم وشرع لهم، وإشارتهم إلى السابقين قبل، وإشارتهم إلى موسى عليه السلام، وأنهم سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يشبه الكلام الذي جاء به موسى، كل ذلك يفهم منه بقرائن قوية أن الرسل في الإنس، وأن الجن تبع ويسمعون رسالات الرسل، وأن الجن فيهم نذر، ويؤخذ من ظاهر قوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] أن هذه الطائفة من الذين سمعوا أنذروا، وهذا الإنذار بمثابة عمل المصلحين الذين ينوبون عن الأنبياء وهم ورثة الأنبياء.