بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول محقق شرح العقيدة الطحاوية في مقدمته: [تأثير الأسباب الطبيعية في مسبباتها بإذن الله]: هذا النوع من الكلام يلحق بالكلام في القدر، فهو تبع للكلام في القدر، وكأن المقدم هنا اختار هذه المسألة لأنها من أبرز المسائل أو من أهمها عنده، وإلا فهناك بعض مسائل القدر المهمة، وإن كان سيذكر الحسن والقبح في الأفعال، وهو أيضاً موضوع اختياره جيد، لكن مسألة الأسباب ليست أهم قضايا القدر التي خالفت فيها الفرق، لكنها تصلح كنموذج، وقد ضرب مثلاً بعد العنوان، فقال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح]، وكان الأولى أن يقول: مثل أن يقال: إن الله يخلق السحاب بالرياح، فهذا مثل للأسباب، وليس هو أهم الأسباب أو أبرز الأسباب.
قال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء، ونحو ذلك، والقول بأن الله يفعل عند الأسباب لا بها يفضي إلى إبطال حكمة الله في خلقه].
هذه المقولة لبعض أهل البدع، وهي أن الله يفعل عند الأسباب، وهي مقولة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، ثم صارت مقولة بعد ذلك لها قواعد، وهي مقولة خاطئة، بل هي من مقولات العقلانيين الذين يقولون: إن فعل الله وإرادته تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذه المسألة ملحقة بمقولة سابقة سبق أن ذكرتها حينما تكلمت عن أول بدع القول في القدر، ومنشأ هذه البدعة: هو القول بإنكار القدر السابق والعلم السابق لله سبحانه وتعالى، الذي قال به غيلان ثم الجعد بن درهم، ونسب إلى معبد الجهني، وهو القول بأنه لا قدر، ومعنى: (لا قدر) أن الله لم يقدر الأمور قبل حدوثها، وإنما يقدرها عندما تحدث، وأن الله لا يعلم الأمور قبل حدوثها، وإنما يعلمها عندما تحدث، وهذا مبني على فلسفة عقلية موروثة عن الفلسفة اليونانية، فليست فلسفة حدثت في الإسلام، إنما هي موروثة عن طوائف متفلسفة من أهل الكتاب، وأهل الكتاب منهم طوائف وفرق كانت على الفلسفة اليونانية الخالصة، ومن هنا وسوسوا لبعض المسلمين بهذه المقولات، فنشأت عنها هذه المسائل.
إذاً: فالقول بأن الله يفعل عند الأسباب يعني أنهم يقولون: إن فعل الله يصاحب الفعل ولا يسبقه، بمعنى: أن علمه تعالى بالشيء لا يسبقه، وأن إرادة الله -أيضاً- تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذا يعني إلغاء حكمة الله سبحانه وتعالى وعلمه السابق وتدبيره الذي هو عن علم وحكمة.
قال: [وأنه لم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، فضلاً عما في هذا القول من مخالفة للكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى يقول: {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:57]، ويقول: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:164]، ويقول: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، ويقول: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52]، ويقول: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9]، ويقول: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:15 - 16] ومثل هذا في القرآن كثير.
وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه، فإن الله فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نوراً)].
يعني هنا أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم تكون سبباً في رحمة الله لمن يصلي عليه.
قال: [فالله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً حصل بدون السبب، وإلا لم يحصل] وجه الشبهة: أنه قد يسأل أمثال هؤلاء المتكلمين من الجهمية والمعتزلة ومن سار على نهجهم فيقول: لماذا جعل الله سبحانه وتعالى للأسباب تأثيراً، مع أن له قدرة مطلقة؟! قد ترد هذه الشبهة، فيقول قائل: لماذا جعل الله الأسباب هي المؤثرة، مع أن الله قادر على أن يستغني عنها؛ فإنه يقول للشيء: (كن) فيكون؟ وقد أجاب المحقق عن ذلك.
قال: [فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً حصل بدون السبب وإلا لم يحصل؟ جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدوراً بدون السبب].
يعني: أن الله قدر أن تكون الأسباب هي الوسيلة لهذه الأمور، فهذه أمور داخلة في قدرة الله، ولا تعني أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأسباب هي م