لقد انبرى شيخ الإسلام ابن تيمية لإظهار مذهب السلف إظهاراً علمياً قوياً بما آتاه الله من مواهب، فكانت جهوده تتلخص في أمور: الأمر الأول: استقراء أقوال السلف وإظهارها بارزة نقية واضحة ليس فيها لبس وليس فيها غبش؛ لأن آثار السلف كانت موجودة في وقته، ولكن كل يستدل بها على منهجه، حتى المتكلمون كانوا يستدلون بأقوال السلف على مناهجهم بأسلوبهم في الاستدلال، فكان هناك شيء من الغبش عند كثير من الناس، فجاء شيخ الإسلام ابن تيمية، فكان من أعظم أعماله أنه أبرز مناهج السلف وأقوالهم وعقائدهم وما هم عليه في كل فروع الدين ومسائله وأصوله إبرازاً واضحاً جلياً.
والأمر الثاني: أنه دافع دفاعاً لم يقم به أحد مثله، أعني: في العقيدة، فدافع دفاع المتمكن، واستعمل جميع وسائل الدفاع المباحة، ومن ذلك وسائل المتكلمين أنفسهم، والتزام مناهج السلف في اعتماد الاستدلال بالكتاب والسنة، والاستدلال بالآثار، واعتماد الإنصاف والعدل في القول، وتحري الحق، واعتماد استعمال البرهان العقلي وقلب الحجة على المنازع، وهذا مما برع فيه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث استعمل مناهج المنازعين لأهل السنة والجماعة ضدهم، كما في درء التعارض، وفي نقض التأسيس وفي غيرهما من كثير من الكتب؛ جعل وسائلهم في تأويل مسائل الدين وفي مجانبة أقوال السلف هي الحجة عليهم، لأنهم في الغالب قلبوا الاستدلالات، وسأضرب لكم مثالاً على قلب الاستدلال عند المتكلمين ليتضح منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في إبراز هذه المسألة، فقاعدة المتكلمين -خاصة المتأخرين منهم- في وضع أصولهم التي تقوم على التأويل والمجاز والتعطيل أنهم يعتبرون النص ظنياً والعقل قطعياً، فما رأيكم في هذه القاعدة؟! أليست مقلوبة؟! ومع ذلك انطلت على صغار طلاب العلم وعلى بعض المتكلمين مدة طويلة، أي أن الأصل في النصوص الشرعية الظني والأصل في العقل القطعي، وهذا مصادم للفطرة والعقل السليم، لكن مع ذلك ساد، حتى صار هو القاعدة الكبرى التي يعتمد عليها المتكلمون، فـ شيخ الإسلام قلب عليهم هذا الاستدلال وأقر فيه الحق، وقال: العكس هو الصحيح، فالأدلة الشرعية هي القطعية؛ لأنها معصومة ولأنها صادرة عن المعصوم، والصادر عن المعصوم معصوم، وهو القطعي، وأدلتكم العقلية ظنية؛ لأنها صادرة عن البشر، والبشر ناقص، والصادر عن ناقص ناقص.
إذاً: أتقيسون الكامل -وهو وحي الله- بالناقص؟! بل ليس الأمر كذلك، أتجعلون الناقص هو الحاكم على الكامل؟! أيجوز هذا؟! فقلب عليهم مناهجهم.
إذاً: فشيخ الإسلام ابن تيمية أبرز مناهج السلف وعقيدتهم على هذا الشكل، ولم يأت بجديد، ومدرسته ليست مدرسة مستقلة، ومذهبه ليس بمذهب مستقل، وقد حماه الله تعالى من أن يبتدع أتباعه له مذهباً ينسبونه إليه، وهذه كرامة له، مع أنه أتى بشيء عجيب، وقام بجهد لم يقم به مثله في وقته ولا بعده، مع ذلك لم يكن لأتباعه تعصب، ولم تكن لهم ميزة تميزهم عن أهل السنة والجماعة، بل أتباعه هم أهل السنة والجماعة، أما لمز الخصوم فهذا لا يعتد به.
وأمر آخر أيضاً في عمل شيخ الإسلام ابن تيمية: هو أنه جمع بين التقرير والدفاع، بين تقرير العقيدة ببيانها وإيضاحها وشرحها وتفصيلها ولم يبتدع شيئاً، فكل ما قاله يستند فيه على الآثار بعد النصوص.
والأمر الثاني: أنه دافع دفاعاً قوياً، بمعنى أنه جلَّى مذاهب السلف وبينها ونقحها مما دخلها بسبب عبث المتكلمين.
وأمر آخر: هو أنه دافع عن كل اتهام لرجال السلف، وعن كل اتهام لرجال العقيدة، ثم فند أقوال الخصوم، فصار تراثه وعمله هو تراث أهل السنة والجماعة، ونسبته إليه إنما هي لأنه إمام من أئمة أهل السنة، لا لأنه انفرد بجهد أو جاء بجديد، أو نهج منهجاً غير منهج السلف، بل كل أصوله مبنية على مناهج السلف، لذلك لما خاصمه بعض المتكلمين في وقته فيما يتعلق ببعض التأويلات وبعض البدع تحداهم بتحد لم يجيبوا عليه إلى الآن، حيث قال: إن أصولكم لا يوجد ما يدل عليها عند السلف في القرون الثلاثة الفاضلة، وقال: أنا أمهلكم ثلاث سنين، فهاتوا لي إماماً واحداً من أئمة الدين المعتد بهم قال بقولكم الذي قلتم به في مسائل التأويل والإيمان ومسائل القدر وغيرها التي خالفتم فيها السلف، فوقفوا ثلاث سنين ولم يجيبوه، فبعد ذلك انتصرت السنة بحمد الله، ولا يزال منهج شيخ الإسلام ابن تيمية هو منهج السلف، ونسبته إليه ليست لأنه ابتدع شيئاً، إنما هي لأنه حرر مناهج السلف وبينها واستقرأها وكتب فيها ودافع عنها، فكان منهجه يتمثل في منهج أهل السنة والجماعة.