قال رحمه الله تعالى: [ومن أعجب العجب: أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات أو الأسماء، ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله) فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيءٍ يتخلق العبد على زعمهم؟!].
يظهر لي -والله أعلم- أن أصل العبارة: (ويروي)، يقصد أن هذه الطائفة تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله)؛ لأن هؤلاء زعموا أن الإنسان قد يرتقي بالارتقاء الكمالي، ويسمون ذلك: الإنسان الكامل تبعاً للفلاسفة اليونانيين وغيرهم الذين زعموا أن الإنسان قد يرتقي إلى درجة توصله إلى الوحدة والحلول والاتحاد بالله تعالى، وهذا ما أشار إليه المؤلف، فهؤلاء جاءوا متأخرين في آخر القرن الثالث الهجري، وكانوا أيضاً لا يعرفون الحديث ولا الآثار، بل هم من أجهل الناس مع شهرتهم عند الناس، من أجهل الناس بالآثار، فكانوا يتلقفون الأحاديث الموضوعة، بل أحياناً يضعون أحاديث من عند أنفسهم كما فعل ابن عربي، فـ ابن عربي يسرد بلا سند -بزعمه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحال أنه عن الشيطان، ثم يقول ما شاء، وأحياناً يصل الحديث إلى ثلاثين صفحة أو أربعين، أحاديث لم نعرف مثلها في السنة، بل هناك كتب كاملة، مثل كتاب الوصايا الذي قال عنه ابن عربي الهالك -نسأل الله العافية- بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه في المنام وقال له: أخرج هذا للناس.
وقد جعل فيه نوعاً من التلبيس، حيث يبدأ الكتاب بتقرير عقيدة أهل السنة والجماعة، حتى إنَّ من يقرأه من الناشئة أو الجهلة أو المثقفين والمفكرين الذين لا يفقهون العقيدة يقول: هذا بقية الصالحين.
حيث يقرر مذهب السلف أكثر مما قرره كثير منهم، ثم يتدرج بالقارئ إلى الكفر الصريح، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بأن يخرج هذا الكتاب للناس.
فهذه الفئة هي التي قالت بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وهي التي نزعت إلى هذه النزعة التي تزعم بأن الإنسان بإمكانه أن يرتقي إلى صفات الإلهية ويتخلق بأخلاق الله تعالى، لا بمعنى الفضائل، لكن بمعنى الوصول إلى القداسة.
وهذا كلام الباطنية والفلاسفة المتأخرين الذين يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، وقد نكب بهم الإسلام، وكذلك غلاة الصوفية المتأخرين، فهذا الكلام كثر بعد القرن الثالث في الصوفية وفي الفلاسفة وفي الباطنية على مختلف أشكالهم، كباطنية القرامطة والدروز والإسماعيلية وباطنية إخوان الصفا وغيرهم من فرق الباطنية التي تعددت وكثرت، فكلها فيها نزعات دعوى الارتقاء إلى درجة الكمال الإلهي، أو ارتقاء الإنسان إلى درجة التخلق بصفات الله تعالى، ليس بمعنى أن يأخذ بالصفات الفاضلة، لكن أن يكون على درجة القداسة.
وأول من صرح بمثل هذه المقولات الحلاج حتى زعم أنه هو الله! وأصر على هذا واستحوذ عليه الشيطان، وختم على قلبه حتى أصر على هذه المقولة وهو أمام السيف، وفي آخر لحظة كان يقال له: تب إلى الله، ويلقنه العلماء والقضاة التوبة، ويقول -نسأل الله العافية-: ما في الجبة إلا الله، وكان لابساً جبة.
حتى قتل بهذا وتفرق دمه على المقربين إليه؛ لأنهم جاءوا على سبيل التحدي يظنون أنه لن يأتيه الموت، فأتباعه كانوا يزعمون أنه لن يموت، فلما انقطعت رقبته وتلطخوا بدمه أصيبوا بصدمة، وبعضهم رجع، وبعضهم ارتد، وحصلت لهم أمور عجيبة.