قال رحمه الله تعالى: [والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لابد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته قطعاً للتسلسل].
قوله: [واجب الوجود لذاته] مجاراة للمتكلمين في التعبير؛ لأنه يقصد الرد عليهم، وبعض الأئمة يتسامح في مجاراة المتكلمين في ألفاظهم إذا كان المقصود الرد عليهم، أو بيان باطلهم، أو إزالة الشبه التي يثيرونها، وإلا فكلمة (واجب الوجود) كلمة فلسفية، وهي تعني: الإقرار بوجود الله ضرورة، بمعنى: أن العقل السليم والفطرة لابد من أن ينتهيا إلى ضرورة الإقرار بالموجود الأول الذي أوجد غيره، فمعنى الوجوب هنا: الضرورة العقلية التي تستلزم وتلزم بأنه لابد من وجود خالق لا يسبق بوجود آخر قطعاً للتسلسل.
ومعنى التسلسل هنا تسلسل الموجب؛ لأنَّا لو افترضنا أن إنساناً توهم باطلاً فقال: لابد للخالق الأول من خالق، ثم تقرر في وهمه ذلك؛ فإنه ينشأ وهم آخر بناءً على هذه الشبهة، وهو لابد للخالق أيضاً من خالق، ثم لابد للخالق من خالق، وهكذا، وهذا ممنوع عقلاً، أي أن العقل يقضي بضرورة نفيه ومنعه، إذاً: فلابد من الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى الخالق الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا الإقرار عقلي يقتضيه العقل، أي أن الله تعالى أول لا بداية له ولا نهاية له، ولا يمكن توهم أو تصور أن للخالق خالقاً، وإن توهم فمن باب ما يدخله الشيطان من شبهات على الناس، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سيأتي إلى: أن الإنسان قد يأتيه الشيطان ويقول له: من خلق الله، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن هذا أمر تنفيه الفطرة السليمة وينفيه العقل، فإنه لا يمكن أن يرد هذا السؤال؛ لأنه لو ورد لورد مثله في الخالق الأول، ثم هكذا إلى ما لا نهاية، وهذا يمتنع؛ لأنه لا يقطع التصور بهذا.
قال رحمه الله تعالى: [فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة؛ فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها؛ فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]].
هذا السؤال الذي ورد في القرآن الكريم هو سؤال الفطرة والعقل السليم، وجوابه بدهي لا يحتاج إلى تكلف، والقرآن نزل لجميع الناس بجميع أفهامهم ودرجات فهمهم، وهو -أي: كتاب الله- منزه عن التعقيد وعن التطويل وعن الغموض، ففيه كامل الوضوح، فمثل هذا السؤال يغني عن جميع فلسفات المتفلسفة وكلام المتكلمين وتكلف المتكلفين في إثبات وجود الله؛ لأنه يخاطب الفطرة والعقل السليم، فكل إنسان يورد هذه السؤال بجد ويتمعن فيه يجد أن الجواب واضح، حيث يقول تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] ولابد من أن يكون خلقوا من شيء، ولابد أن يكون هذا الشيء له موجد وهو الله سبحانه وتعالى، فالمخلوق لابد له من خالق.
وفي الشق الثاني يقول تعالى: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، وكل عقل وفطرة سليمين يدركان أنهم ليسوا هم الخالقين، ولا يمكن أن يتأتى ولا أن يتصور أن يكون المخلوق هو الذي خلق نفسه؛ يدرك ذلك المخلوق العاقل، فكيف بغير العاقل؟! فالمخلوق العاقل يجد ضرورة في نفسه أنه بحاجة إلى غيره، وأن وجوده متوقف على موجد له، وهذا الإنسان قبل أن يعقل نشأ وترعرع بخلق الله ورعايته وقدرته، ثم لما عقل عرف أنه قبل أن يعقل لم يوجد نفسه؛ لأنه لا قدرة له في أمور أقل من الوجود، لا قدرة له في أن يبقى على الحياة، ولا في أن يدفع عن نفسه المرض ولا الفناء، ولا قدرة له في أن يتحكم في أي أمر من الأمور اللاإرادية التي أوجدها الله فيه.
إذاً: فمن باب أولى ألا يتصور أنه خلق نفسه.
فمثل هذه الأسئلة أسئلة مباشرة تمس الفطرة والعقل السليم مباشرة، ولا تحتاج إلى تكلف، لا في الفهم ولا في الجواب.
وجوابها بدهي لا يحتاج إلى كثير تفكير، بخلاف ما يسميه المتكلمون أدلة، أو يسمونه براهين ودلائل على وجود الله، ففيه التكلف كل التكلف، لأنها أدلة تنشأ من شبهات ثم ترد على الشبهات، وفي الغالب أن أي شبهة تنشأ في أمر غيبي لا يمكن أن يكون الجواب عليها إلا بالوحي أو بعقل يسترشد بالوحي، أما بمجرد قوة العقل فيستحيل لعاقل أن يدرك أسرار الغيب.
قال رحمه الله تعالى: [يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه وعدمه بدلاً عن وجوده؛ فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له].