قال رحمه الله تعالى: [والجبرية: أصل قولهم من جهم بن صفوان كما تقدم، وأن فعل العبد بمنزلة طوله ولونه! وهم عكس القدرية نفاة القدر؛ فإن القدرية إنما نسبوا إلى القدر لنفيهم إياه، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله؛ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وقد تسمى الجبرية قدرية].
في هذا تجاوز في تعليل التسمية، أما كون القدرية سموا قدرية لنفيهم القدر فهذا واضح، أما المرجئة فسموا مرجئة لعدة أسباب بحسب حالهم، فمرجئة الفقهاء سموا مرجئة؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان، ومرجئة المشككة -الذين سيأتي الكلام عنهم بعد قليل- سموا مرجئة؛ لأنهم أرجئوا أمر الحكم على العباد، خاصة أصحاب الذنوب، والجهمية سموا مرجئة؛ لأنهم قالوا بالإرجاء المطلق، غلَّبوا جانب الرجاء مطلقاً، ولم يعد للخوف ولا للوعيد عندهم أي اعتبار، وطائفة من الناس سميت مرجئة؛ لأنهم اختلفوا في بعض قضايا الدين، كاختلافهم فيما حدث بين الصحابة، أو كاختلاف بعضهم في المفاضلة بين علي وبين عثمان، فكل من هذه الطوائف قالوا: نرجئ الأمر ولا نبت فيه، يعني: نتوقف فيه، فسموا مرجئة؛ لأنهم أخروا الحكم فعلقوه بمشيئة الله عز وجل.
إذاً: كل طائفة من المرجئة صار سبب تسميتها مرجئة راجعاً إلى حالها، فهم لا يتشابهون في سبب التسمية، وما ذكره الشارح هنا لعله من أضعف الأقوال في سبب تسمية المرجئة، وإذا أطلقت بدون تقييد وبدون ما يدل عليها السياق، فإنها تعني مرجئة الفقهاء الذين يقولون بأن الإيمان تصديق، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا استثناء في الإيمان، فهؤلاء هم المرجئة عند الإطلاق.
قال رحمه الله تعالى: [وقد تسمى الجبرية: قدرية؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر، كما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع، فلا يجزمون بثواب من تاب، كما لا يُجزم بعقوبة من لم يتب].
هؤلاء أيضاً يسمون مرجئة، وهنا لم يأت بجواب العبارة: (كما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعيد والعيد) كما يسمى المرجئة كذلك.
وقوله: (بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع) يعني: الأنواع المتعلقة بالأحكام العامة البدهية، بعضهم يشكك فيها، مثل: الثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصي مطلقاً، يوجد من يشكك ويرجئ الأمر مطلقاً، فهذا يعتبر نوعاً من الوسواس، أو نوعاً من الزندقة أحياناً، وكذلك الوعد والوعيد لا يقرون بوعد ولا بوعيد، ولا بثواب ولا بعقاب، أو يغلون في تعليق مصائر العباد، فلا ثواب ولا عقاب، ولا وعد ولا وعيد.
إذاً: هذا معنى قوله: (في إرجاء كل أمر حتى الأنواع) يعني: أنواع الأحكام العامة من الثواب والعقاب، والوعد والوعيد ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [وكما لا يجزم لمعين.
وكانت المرجئة الأولى يرجئون عثمان وعلياً ولا يشهدون بإيمان ولا كفر].
هنا أشار المؤلف رحمه الله إلى عدة أنواع من المرجئة، أولهم: المرجئة الجبرية الخالصة، المرجئة الغالية، مرجئة الجهمية، الذين يقولون: لا يضر مع المعرفة ذنب، وبعد ذلك تأتي بعدهم: مرجئة الكرامية، ولم يشر إليهم هنا، لكن يحسن ذكرها، وهم الذين يقولون بأن الإيمان قول اللسان فقط، وهم في الدرجة الثانية من حيث البدعة، أما المقولة الأولى فهي مقولة كفرية، وهي القول بأن الإيمان هو المعرفة فقط، والمقولة الثانية بدعية، وهي أن الإيمان هو قول اللسان فقط، وهم الكرامية.
والنوع الثالث من المرجئة: مرجئة الفقهاء، الذين يقولون بأن الإيمان هو التصديق، أو التصديق والقول، فيخرجون الأعمال من مسمى الإيمان، ويمنعون زيادة الإيمان ونقصانه، ويمنعون الاستثناء في الإيمان.
والمرجئة الرابعة: مرجئة الأحكام، الذين لا يجزمون بحكم، لا يجزمون بثواب ولا بعقاب، ولا بوعد ولا بوعيد، وهم فرع عن الجهمية، لكنهم أخف، وهؤلاء يكثرون في المتصوفة.
والمرجئة الأخيرة: هم مرجئة أمر الصحابة، فهم الذين أرجئوا الأمر فيما حدث بين الصحابة، فلا يرون أن أحداً من الصحابة محق على سبيل الجزم، فيقولون: لا نجزم، وهذا خلاف رأي جمهور السلف، وتفرع عن هذه المرجئة أيضاً إرجاء أمر علي وعثمان، ترددوا في أيهما أفضل، ثم ترددوا في أيهما أحق بالخلافة، ثم نتج عن ذلك أيضاً التردد في أمر علي ومعاوية رضي الله عنهما وأصحابهما، ممن حدث بينهم شيء من الخلاف في صفين والجمل وغيرها، فترددوا في الأمر، وقالوا: نرجئ أمرهم إلى الله عز وجل، وهذا كله خلاف قول السلف.
إذاً: التجهم الأول: كفري، والثاني: بدعي، والثالث: بدعي، والرابع: لم يتكلم السلف في حق من قاله؛ لأنه قول انتهى، قاله قوم من السلف إبان الفتنة وبعده بقليل، قبل أن يستقر القول عند السلف في تفضيل عثمان رضي الله عنه على علي، وقبل أن يستقر عند السلف أن الفئة المحقة هي فئة