قال رحمه الله تعالى: [فأما العدل فَسَتَرُوا تحته نفي القدر، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، ولا يقضي به؛ إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جوراً! والله تعالى عادل لا يجور.
ويلزمهم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون، ولازمه وصفه بالعجز! تعالى الله عن ذلك.
وأما التوحيد فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن؛ إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة، أو التناقض! وأما الوعيد فقالوا: إذا أوعد بعض عبيده وعيداً فلا يجوز ألَّا يعذبهم ويُخلف وعيده؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يعفو عمن يشاء، ولا يغفر لمن يريد عندهم! وأما المنزلة بين المنزلتين فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر! وأما الأمر بالمعروف، وهو أنهم قالوا: علينا أن نأمر غيرنا بما أُمِرنا به، وأن نلزمه بما يَلْزَمنا، وذلك هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وضمَّنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا! وقد تقدم جواب هذه الشُّبَه الخمس في مواضعها].
فسر المعتزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمرين: الأمر الأول عندهم: أن المعروف هو ما يدخل تحت عقائدهم، والمنكر ما يخالف عقائدهم.
الثاني: أنهم اعتقدوا أن من أصول النهي عن المنكر، بل أول درجاته: الخروج على الأئمة، الخروج على الولاة.
أما الأول: الذي هو إلزام الناس بما هم عليه، فإنهم حينما كانت لهم وزارة في عهد المأمون رأوا أن من الأمر بالمعروف إلزام الناس بالقول بعقائدهم، ومنها: القول بخلق القرآن، وأن من النهي عن المنكر إلغاء القول بأن القرآن منزل غير مخلوق، وفعلاً وصل الأمر إلى أن فتنوا المسلمين فتنة عظيمة، ورأوا أن ذلك هو غاية إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما الثاني: الذي بزعمهم أنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخروج على الولاة، فإنا نعلم أن ذلك مخالف للنصوص الصريحة الواردة في السنة، الدالة على ضرورة السمع والطاعة للولاة، وإن وقعوا في الكبائر، وإن ظلموا وإن فسقوا، كما هو معروف في الأحاديث، وربما يقول قائل: لم تجاهلت المعتزلة أحاديث الصبر على الجور، وأحاديث السمع والطاعة بالمعروف، وأحاديث وجوب التزام البيعة للولاة، وإن كانوا من الفجار والفساق والظلمة، أقول: لأنهم لا يعولون على السنة كثيراً، فالسنة عندهم ليس لها اعتبار إلا فيما يؤيد عقائدهم، ولذلك لا يستدلون بالنصوص إلا للاعتضاد، إذا وجدوا نصاً يعضد أقوالهم أخذوا به، وإذا لم يعضد أقوالهم تركوه ولا يبالون بذلك؛ لأن السنة عندهم منزلتها ليست كالقواعد الفلسفية والعقلية التي يدينون بها، وذلك راجع إلى اعتقادهم الفاسد في الصحابة، وراجع إلى اعتقادهم الفاسد في منهج الاستدلال، فهم لا يستدلون بأحاديث الآحاد، ويرون أن هذه الأمور العملية المتعلقة بالسنة ليست من الأمور الواجبة على الأمة، وأن الدين يمكن أن يكمل من خلال الاجتهاد العقلي وغير ذلك من الأمور التي صرحوا بها في كتبهم، وبعضهم اعتمدها من مناهجهم الأساسية.
أما تعطيل الصفات فداخل في مفهوم التوحيد، والتوحيد عند المعتزلة يقصدون به نفي الصفات، لكن الشارح هنا أتى بنموذج فقط، وهو القول بخلق القرآن؛ لأنه هو الذي أثاروا فيه الفتنة، وألزموا المسلمين به بقوة السيف، وإلا فهم أدخلوا في مفهوم التوحيد نفي جميع الصفات التي يرون أنها تعني تعدد القديم؛ لأنهم زعموا أن إثبات الصفات لله عز وجل يعني التنوع، ونظرتهم إلى وجود الله عز وجل نظرة عجيبة، فهم يمنعون أن يكون هناك تنوع في صفات الله عز وجل، حتى إنهم يرون أن الأسماء -وهم يثبتونها- ما هي إلا تعبيرات عن أمر واحد، وسبب ذلك أن عقيدتهم في الله عز وجل راجعة إلى اعتقاد الفلاسفة، بأن وجود الله عز وجل وجود معنوي عقلي، وليس له وجود ذاتي، ومن هنا زعموا أن إثبات الصفات يعني تعدد الموصوف، ولا يقصدون بتعدد الموصوف أن يكون للموصوفين أفراد، لكن يقصدون بتعدد الموصوف تعدد أحوال الموصوف، وهم يرون أن الموصوف ليس له أحوال، ولذلك عبروا عنه بتعدد القدماء؛ لينفروا الناس من إثبات الصفات، قالوا: إذا قلنا بأن القرآن كلام الله، فهذا يعني أنه لا بد أن نقول: كلامه صفته، وإذا قلنا بأن كلامه صفته، أدى هذا إلى أن الله عز وجل له صفات متعددة، وهذا يؤدي إلى ثبوت الأحوال لله عز وجل، والأحوال لا بد أن ينتج عنها إثبات الذات وهكذا، بمعنى: أن عقيدتهم في الله تعود إلى القول بأن وجود الله وجود معنوي.