قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وبين الأمن والإياس): تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأنه يجب أن يكون العبد خائفاً من عذاب ربه، راجياً رحمته، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد في سيره إلى الله تعالى والدار الآخرة].
يعني: الأمن من عقوبة الله عز وجل ومن بطشه وعذابه، أما الأمن المطلق فهو بمعنى ألا يخاف الإنسان من ذنوبه، وأنه بإمكانه أن يرتكب المعاصي ثم يطمئن على مصيره، فهذا الأمن الذي لا يجوز، وهو الذي قالت به الجبرية السابقة؛ لأن القول بالأمن نتيجة للقول بالجبر، والإرجاء الغالي نتيجة للقول بالجبر، فعلى هذا الآمنون من مكر الله عز وجل ومن بطشه وعقابه وعذابه هم غلاة الجهمية، وعلى هذا المذهب غلاة الصوفية كذلك، وأيضاً غلاة المرجئة عموماً في كل زمان، والإرجاء قد يكون مذهباً، وقد يكون مسلكاً شخصياً أو رأياً فردياً، وقد يوجد الإرجاء في أفراد لا يعرفون عقيدة المرجئة كعقيدة مفلسفة أو مقننة، لكنهم تميل طبائعهم إلى الإرجاء الغالي، فيهلكون بالأمن من مكر الله عز وجل ومن عذابه وعقابه.
إذاً: الأمن المطلق هو نتيجة للقول بالإرجاء الغالي، ومن هنا زعم هؤلاء الأمن من مكر الله مطلقاً، فزعموا أنهم من أهل الجنة مطلقاً، وأنه لا يدخل النار أحد، وكذلك الإياس عكس ذلك، فالإياس هو مذهب الخوارج؛ لأنهم متنطعة ومتشددة، ويميلون إلى اليأس من رحمة الله عز وجل، ولذلك يضيقون على أنفسهم وعلى الناس، ثم قرن هذا المذهب بصنف النساك والعباد الأوائل، وأغلبهم امتداد للخوارج، الخوارج أينما واجهتهم الأمة انقسموا إلى قسمين: قسم قاتل بالسيف فهلك أو أهْلَك، وقسم مال إلى العزلة والعبادة، لكنه بقي على التنطع والتشدد، وهؤلاء غلاة العباد الذين حصل منهم الصعق عند قراءة القرآن، وحصل منهم شيء من اليأس من رحمة الله عز وجل، وتيئيس الناس من الرحمة، ثم صار مذهباً في العباد والنساك فيما بعد، ولا يزال مذهباً فردياً عند كثير من الناس، لكن الأصل فيه أنه موجود عند الخوارج والطوائف الغالية في الدين دائماً.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.