قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا شيء يعجزه)].
في هذه العبارة تقرير عقيدة السلف؛ إذ عندما كثر الخوض في أمر الاعتقاد وظهرت الفرق، وظهر أهل الأهواء والبدع، ودخلت على الناس المسائل الفلسفية، وكثر الكلام والخوض في العقيدة، خاصة فيما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته؛ اضطر السلف إلى تقرير البدهيات، ومنها ما ذكره الطحاوي هنا، فقوله: (ولا شيء يعجزه) أي: لا شيء يعجز الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر بدهي تقتضيه جميع العقول السليمة، حتى عقول الكفار الذي يعترفون بالله، كاليهود والنصارى وسائر أهل الملل الذين يؤمنون بالله إذا لم تخالطهم فلسفات، فإنهم بالبداهة مقتنعون عقلاً وفطرة بأن الله لا يعجزه شيء، فضلاً عن المسلمين عامتهم وخاصتهم، فإنه من البدهي أن يقال: إن الله لا يعجزه شيء سبحانه؛ لأن هذا مقتضى كونه إلهاً ورباً وخالقاً، ولا تنفك عن ذلك العقول السليمة، ولا الفطر المستقيمة، لكن اضطر السلف لتقرير هذه البدهيات؛ لأن أهل البدع تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته بقواعد عقلانية فلسفية هي أقرب إلى الترهات والخيالات التي هي شبهات من الشيطان.
فالجهمية مثلاً -وهم أول من تجرأ على الكلام في ذات الله- طعنوا في حكمة الله تعالى وفي قدرته، ورسموا لله -تعالى عما يقولون وعما يزعمون- صلاحيات، فقالوا: إن الله يقدر على أن يفعل كذا ولا يقدر أن يفعل كذا، وإذا قرر الله بعدله أن يعذب الكافر فلا يقدر على أن يخرجه من النار! عياذاً بالله من ضلالهم.
ومن هنا قالوا بعدم خروج أهل الكبائر من النار؛ لأن هذا طعن في قدرة الله، وكأن الله يعجز عن أن يخرج أحداً من النار بعد أن يعذب، وهكذا في سائر القضايا التي هي من سنن الله تعالى أو أحكامه، أو مما حكم الله به وقضاه، فإنهم يزعمون أن الله إذا قضى قضاءً لا يقدر على أن يتخلى عنه.
ولم يفرقوا -بل أقول: إنهم ما أدركت عقولهم التفريق- بين قدرة الله تعالى وبين إرادته، فنحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى أراد هذه الأمور، لكنه قادر على غيرها، فلم يفرقوا بين هذا وذاك، فلذلك اضطر السلف -ومنهم الإمام الطحاوي رحمه الله في هذه العقيدة- إلى قول هذا الكلام، وسيأتي مزيد شرح لذلك.