إن نصوص الشرع سواء ما يتعلق منها بالعقائد أو الأحكام على درجات وأنواع: الأول: ما يفهمه جميع الناس، مثل: آقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فهذا يفهمه جميع الناس، وطلبه سهل ما يحتاج إلى آلة العلم أو التفقه.
النوع الثاني: ما يعرفه عامة طلاب العلم والعلماء، وهو أغلب نصوص الشرع، الغالبية العظمى من نصوص الشرع مما يدركه العلماء وعامة طلاب العلم.
النوع الثالث: ما لا يدركه إلا الراسخون، وهذا مما يجب أن ترجع فيه الأمة إلى الراسخين، ويبحث عند الإشكال فيه عن أهل الرسوخ والاختصاص، وقد يدرك الراسخ شيئاً ويخفى عليه شيء، وقد يكون أهل الرسوخ في العلم لكل منهم اختصاص وجانب من الإبداع والإجادة ما لا يجيده الآخر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصحابة بأوصاف متباينة، وأسند لهم بعض الأمور فيما يتعلق بالعلم الشرعي، فمنهم من تميز بالقضاء، ومنهم من تميز بالفتوى، ومنهم من تميز بالمواريث إلى آخره، وكل من الصحابة الذين خصهم النبي صلى الله عليه وسلم أو أشار إلى علمهم ونحو ذلك، هؤلاء كلهم علماء، ولا يعني: أنهم لا يجيدون إلا ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عند كل واحد منهم مزية في جانب معين، وإلا فلا يكون العالم عالماً ولا الراسخ راسخاً إلا إذا كان علمه موسوعياً، لا يمكن أن يكون عالماً ترجع إليه الأمة وإن لم يكن متخصصاً في كل شيء، لكن لا يمكن أن يكون جاهلاً بأصول الحديث أو بأصول التفسير، أو جاهلاً بقواعد الفقه الأساسية وقواعد الاجتهاد، أو يكون جاهلاً باللغة العربية جهلاً يخرجه عن أهل العلم، هذا لا يمكن، وهذا الصنف هو الذي يدرك كثيراً مما لا يدركه الآخرون، ومع ذلك قد تبقى بعض مسائل الدين لم يدركها حتى الراسخون في العلم، ومنها ما يسمى أو بمشكل الآثار، كما سماها كثير من أهل العلم، بمعنى أنه لم يجزم أحد بشيء منها، وعلى هذا فهذه الأمور لا يتعلق فيها تكليف، فالأمور التي بقيت محل إشكال هي ليست من أمور العبادات، ولا من أمور العقائد القطعية، ولا من الأمور التي يتعلق بها أحكام الناس، التي فيها مصالحهم في دينهم ودنياهم، إنما هي من الأمور التي ابتلى الله بها الأمة؛ لينظر من يسلم ويذعن ممن لا يسلم ولا يذعن، وهي مسائل معدودة قليلة، لا يصل فيها الراسخون في العلم إلى جزم ويقين، ومع ذلك تبقى أنموذج لوجوب التسليم لله عز وجل، فما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حق، لا بد من التسليم به.
ومع ذلك أيضاً قد تمر أحياناً أجيال لا يدركون شيئاً في بعض المسائل، فيخرج واحد من أهل العلم فيدرك شيئاً لم يدركه الأولون، وهذا ليس فيه مانع تصوراً وشرعاً، وإن كان هذا لا يعرف في مسائل الدين الكبرى جزماًَ، كالمسائل العظمى، ومسائل مصالح الأمة، وما يتعلق بقضايا العقيدة الأساسية، ليس هناك شيء يكتشف بعد، لكن ما يتعلق بالجزئيات، في الأحكام، قد توجد في أهل عصر دون الآخر، إما لأن الحاجة لم تحدث إلا في وقت معين، كبعض المستجدات التي انطبقت عليها النصوص في وقتنا، هذا لم تنطبق عليه النصوص قبل هذا الوقت.
إذاً: أمور الدين هي على هذه الأنواع: منها ما يدركها جميع المسلمين عامة.
ومنها ما يدركها عامة العلماء وطلاب العلم.
ومنها ما لا يدركها إلا الراسخ في العلم.
ومنها ما لا يدرك، وهذا لا يدخل في هذه الأصناف، لكن يبقى مما يجب التسليم به على أي حال، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.