قال: [فالأول: كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله، وطائفة قالت هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكنه مخلوق في غيره لم يقم به، وطائفة قالت: بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل، فآمنت ببعض الحق وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك].
هذا الكلام كله ليس بصحيح على إطلاقه، يعني: اختلافهم في تكلم الله عز وجل بالقرآن وتنزيله، قالت طوائف من المعتزلة وبعض الجهمية: إن كلام الله حصل بقدرة الله عز وجل، لكنه مخلوق في غيره فلم يقم به.
وقالت الكلابية ومن سلك سبيلهم من الأشاعرة والماتريدية: إن كلام الله هو صفة قائمة بذاته، ليس بمخلوق، لكن البعض قال: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وهؤلاء هم الكلابية ومن سلك سبيلهم.
فالكلابية هم أول من قال هذا القول، زعموا أنهم أرادوا التوسط به بين قول المعتزلة وبين قول أهل الحديث، فهؤلاء زعموا أنهم أثبتوا كلام الله عز وجل، وأن كلامه صفة قائمة بذاته وأن الكلام ليس بمخلوق، لكنهم نفوا أن يكون كلام الله متعلقاً بقدرته ومشيئته، وهذه بدعة.
والحق أن كلام الله عز وجل صفة لله قائمة بذاته، وأنه متعلق بقدرة الله ومشيئته، ولا يحد من مشيئته للكلام شيء، ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله هو معنى قائم بالنفس، ولا يجوز أن يقال: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، ولا عبارة عن كلام الله، بل كلام الله عز وجل متعلق بمشيئته، فكما أنه موصوف بالكلام دائماً وأبداً، فكذلك أيضاً موصوف بأنه يتكلم متى شاء سبحانه، وقد ثبت أنه كلم آدم وكلم موسى وكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يكلم الناس يوم القيامة ويناديهم ويناجيهم، وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء.
إذاً: كل من القولين فيه خطأ وصواب، فالصواب عندهم أنهم أثبتوا كلهم أن الله متكلم، لكن الأولين أخطئوا في قولهم بأن القرآن مخلوق في غيره لم يقم به، أي: أن الله لم يتكلم بحرف وصوت على ما يليق به سبحانه، والآخرون وهم الكلابية ومن سلك سبيلهم أيضاً أصابوا في قولهم: إن الكلام صفة لله قائمة بذاته، وأنه ليس بمخلوق، لكنهم أخطئوا حينما قالوا: بأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولذلك اضطروا بأن يقولوا: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، أو عبارة عن كلام الله، وهذه بدعة؛ لأن الحكاية والعبارة مثل الترجمة لا تعتبر كلاماً، بل لا بد أن تنسب إلى غير الله؛ لأنه إذا كان الحاكي بالقرآن والمعبر عن القرآن غير الله لم يصر كلامه إلا من باب المجاز، والمجاز لا يعبر عنه بالكلام الحقيقي، ولذلك يفرق بين من يتكلم حقيقة، وبين من لا يتكلم حقيقة، ولله المثل الأعلى، الإنسان القادر على الكلام يقال له: متكلم، بخلاف الأخرس لا يقال له: متكلم، مع أنه يمكن مجازاً أن يسمى تعبيره بالإشارات كلاماً، فهو حكاية وعبارة عن كلام الأخرس، لكنه لا يسمى كلاماً حقيقياً عند العقلاء، ولله المثل الأعلى، مع أن الله عز وجل يتكلم كما يشاء، وليس كلامه ككلام المخلوقين، فليس كمثله شيء، لكن نقصد أصل إثبات الصفة، ولا مانع من ضرب الأمثال في أصل إثبات الصفة لله لا في كيفيتها، ولله المثل الأعلى.
فمن هنا نقول: إن كلاً من الطائفتين أخطأتا، وإن أصابتا في الأصل أو في بعض الأصل، والحق في هذا أن الله عز وجل متكلم موصوف بالكلام، وكلامه قائم بذاته سبحانه، وأيضاً كلامه متعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء وكيف شاء كما يليق بجلاله، وكلامه بحرف وصوت، ويسمى نداء، ويسمى قولاً، ويسمى كلاماً إلى آخره.
أما القول بأنه أقيمت الحجة على من قال: بأن كلام الله حكاية، أو أن القرآن عبارة عن كلام الله، أو أن الكلام معنى قائم بالنفس، فيكفر، فهذا غير صحيح؛ لأن أصل نزعة القول هذه ناتجة عن تأول، وإن كان يلزم من ذلك الكفر، لكن ما دام لا يلتزم، حتى لو كان في عدم التزامه شيء من المغالطة، أو البعد عند العقلاء، وعند أهل العلم والفقه في الدين، فما دام يتأول فإنه سيبقى مبتدعاً ولا يكفر.