القضية الثالثة التي تكلم عنها الشارح: وجوه فهم المخاطب للألفاظ الشرعية، ولماذا عبر الشارع بالألفاظ المشتركة؟ إذ ربما ترد هذه الشبهة على المعطلة والمؤولة والمشبهة، فيقولون إذا كان الله سبحانه وتعالى لصفاته وأسمائه كيفيات غير ما للمخلوقين، فلماذا عبر بهذه الأسماء والصفات؟ فيقال لهم: هذا على وجه التقريب؛ لأنه ليس عند المخاطب قدرة على الفهم أكثر مما يدركه في الموجودات، فالأمور الغيبية لا يمكن أن يصل إليها، ولو وصل إليها ما صارت غيباً، فالله تعالى عندما أخبرنا عن نعيم الجنة عبر بألفاظ عن هذا النعيم تشبه الألفاظ التي تطلق على أنواع النعيم في الدنيا، لكن الحقيقة غير الحقيقة، فلذلك قد يعبر عن بعض أمور الغيب بأقرب لفظ يقرب إلى الذهن فهمها، وإن كانت في الكيفيات على غير ما يعهده السامع؛ نظراً لأنه لا يمكن أن يطلع على الغيب.
فلذلك جاءت النصوص الشرعية في ذكر أسماء الله وصفاته وغير ذلك من أمور الغيب بما يمكن أن يفهمه المخاطب من خلال مشاهداته وحسه، وضبطت هذه النصوص بقواعد أخرى تنفي التشبيه وتنفي التعطيل، وهي مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
فالله وصف نفسه بأنه العلي العظيم، وأنه حليم وأنه حي قيوم، وفي نفس الوقت قال الله لنا عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]؛ لئلا ترتبط الصفات التي نسمع الألفاظ عنها بالمحسوسات المتخيلة في أذهاننا، حتى لا نشبه أسماء الله وصفاته بما نعرفه مما يشبه الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، فعلى هذا تثبت الحقائق الواردة في النصوص، أي: حقائق الألفاظ، لكن لا يمكن أن تثبت الكيفيات، والحقائق غير الكيفيات، فلذلك أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة هي حقائق، لكن الكيفيات التي هي عليها كيفيات كاملة تليق بجلال الله تعالى، ولا يمكن أن يدركها بشر؛ لأن الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وهذا أيضاً في سائر أمور الغيب التي أخبرنا الله بها، فشبهها بما عندنا من المحسوسات شبه لفظي، وهي حقائق، لكن الكيفيات غيبية، ولو كانت معلومة أو تشبه المشاهدات عندنا لما كانت غيباً.
وما أخبر الله به من أمور الغيب على نوعين: نوع يمكن أن يرتسم له في الذهن ما يقرب من الحقيقة والكيفية، وهو ما أخبر الله به مما يوجد مثله، كإخبار الله تعالى عن الطوفان، أو عن غرق فرعون أو عن قصص النبيين، فهذه الأمور تفهم مما يقرب من كيفياتها، وربما نرى بعض أثارها وأعيانها، فهي غيب من حيث أحداثها، لكن ليست غيباً من حيث كيفياتها التي هي عليها.
والنوع الآخر من الغيب هو الغيب الآخر الذي لا يوجد مثله في الدنيا، فهذا كيفياته في نطاق الغيب، ويستحيل لأحد من البشر أن يصل إلى هذه الكيفية؛ لأنه لو أمكن لأحد من البشر أن يصل إلى هذه الكيفية لما صارت غيباً، ولما سماها الله لنا غيباً، والغيب ما غاب عن الذهن والعقل والحس على السواء.
هذه أهم القضايا التي وردت في بقية النص.