قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر وصار من أهل الحين).
كلام حق ظاهر لا خفاء فيه، والحين، بالفتح: الهلاك.
قوله: (والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى).
قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119].
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
وقال تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60].
{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93].
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61].
ونظائر ذلك كثيرة.
ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضا، والعداوة، والولاية، والحب، والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى.
كما يقولون مثل ذلك في السمع، والبصر، والكلام وسائر الصفات، كما أشار إليه الشيخ فيما تقدم بقوله: (إذ كان تأويل الرؤية، وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية، ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المرسلين).
وانظر إلى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وروي أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً عليها، ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال الشيخ رحمه الله فيما تقدم: (من لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه).
ويأتي في كلامه: (أن الإسلام بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل).
فقول الشيخ رحمه الله: (لا كأحد من الورى) نفي التشبيه، ولا يقال: إن الرضا إرادة الإحسان، والغضب إرادة الانتقام، فإن هذا نفي للصفة، وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه، وينهى عما يسخطه ويكرهه ويبغضه ويغضب على فاعله، وإن كان قد شاءه وأراده، فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده، ويكره ويسخط لما أراده.
ويقال لمن تأول الغضب والرضا بإرادة الإحسان: لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب والرضا الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه من الغضب، ويقال له أيضاً: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا هي ميل الحي إلى الشيء، أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده، ومفتقر إليه، يزداد بوجوده، وينقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذاك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك.
فإن قال: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهما حقيقة.
قيل له: فقل: إن الغضب والرضا الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كانت كل منهما حقيقة، فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات، لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض، وتسلم أيضاً من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دله عليه عقله؛ إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر! وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى، لامتناع مسمى ذلك في المخلوق، فإنه لا بد أن يثبت شيئاً لله تعالى على خلاف ما يعهده، حتى في صفة الوجود، فإن وجود العبد كما يليق به ووجود الباري تعالى كما يليق به، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته مثل الحي والعليم والقدير، أو سمى به بعض صفاته كالغضب والرضا، وسمى به بعض صفات عباده، فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى، وأنه حق ثابت موجود، ونعقل أيضاً معاني هذه الأسماء في حق المخلوق، ونعقل أن بين المعنيين قدراً مشتركاً، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركاً، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركاً إلا في الأذهان، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً مختصاً، فيثبت في كل منهما كما يليق به، بل لو قيل: غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة، لم يجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين؛ لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الأربعة حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه، فغضب الله أولى].
نقف عند هذه النقطة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.