قال رحمه الله تعالى: [وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة إلى أن الدعاء لا فائدة فيه! قالوا: لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء، وقد يخص بعضهم بذلك خواص العارفين، ويجعل الدعاء عليه في مقام الخواص].
يعني: أن الخواص يتحكمون في القدر لا على سبيل الدعاء، لكن الدعاء يعتبر إشارة أو علامة للتأثير في الأمور الكونية.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا من غلطات بعض الشيوخ].
لأنهم يزعمون أن الخواص يدبرون الكون! تعالى الله عما يزعمون؛ ولذلك قسموا الكون ووزعوه على من يقدسونه، فقالوا: القطب والغوث هذا هو المتحكم الأول في الكون، ثم من دونه طبقات بحسب التسمية، مثل: الأوتاد ومن دونهم، فقالوا: إن هؤلاء كل منهم له جزء في التصرف الكوني، فعمموا هذا حتى على مسألة الدعاء، فزعموا أن دعاء هؤلاء الخواص أمر ونهي، أي: تحكم في الكون، ليس مجرد طلب من الله عز وجل، لكنه إشارة أو دليل على تصرفه في الكون، فكأن صاحب الخصوصية عندهم إذا دعا فإنه يأمر الأسباب بأن تتصرف كما يريد.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا من غلطات بعض الشيوخ، فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية، فإن منفعة الدعاء أمر اتفقت عليه تجارب الأمم، حتى إن الفلاسفة تقول: ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون اللغات، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات، هذا وهم مشركون].
هذا هو الذي يعتقده فلاسفة الصابئة، فهم يزعمون أن الأفلاك مؤثرة، وبعضهم يزعم أن الدعاء مؤثر فيما تعقده الأفلاك، فجعلوا تأثير هذا في هذا كله من دون الله عز وجل، وهم لا يقصدون ضجيج الأصوات بالدعاء المشروع، ولذلك نجد عند الصابئة وعند كثير من الديانات الوضعية التي تأثرت بالفلاسفة فيها أدعية تتضمن شركيات، وتنسب التأثير إلى غير الله عز وجل، وتطلب النفع والضر من غير الله سبحانه، ويزعمون أن هذا مما يؤثر على تدبير الأفلاك في الكون.
فالفلاسفة ما قصدوا الدعاء بمعناه الشرعي، إنما قصدوا مجرد توجه العباد إلى من يزعمون أو يدّعون حصول النفع منهم، ونحن نعرف أن الداعي لغير الله عز وجل قد يتحقق له طلب من باب الابتلاء، بمعنى أنه قد يدعو غير الله مما لا يقدر على شيء مما يُدعى إليه وقد يتحقق للداعي دُعاءه من باب الابتلاء، فيكله الله عز وجل إلى هذا المخلوق، فيقع في الشرك، وقد ينتفع في دنياه وفي بدنه، لكنه يقع في الشرك، وهذا كثير، ولذلك بعض الناس قد يفتن إذا رأى دعاة أهل القبور قد ينتفعون ببعض الأشياء، قد ينتفعون من دعائهم لأصحاب القبور في بعض الأشياء فيفتن، ويكون عنده شيء من الريب والشك، وما جرى من هذا الشرك ابتلاء، مع أنه لا يتحقق له الطلب في الغالب، لكن إن تحقق طلبهم فلأنهم لجئوا لجوءاً صادقاً من حيث التوجه، لا لإخلاص العبادة، لكن من حيث الاضطرار، فالله عز وجل يجيب المضطر ولو كان كافراً.
إذاً: المسألة تحتاج إلى إيضاح؛ لئلا تلتبس على الناس؛ لأني أرى كثيراً من الناس، خاصة مع كثرة إقبالهم على الرقى والأدعية غير المشروعة، وضعف توكلهم على الله عز وجل، تعلقت قلوبهم بمثل هذه الأمور، وحصل لهم نفع، فظنوا أن هذا النفع الذي حصل يدل على مشروعية العمل، وأن الله عز وجل ما حقق على أيديهم النفع إلا لأنهم على حق، وهذه مسألة فيها شرك، فنبين للناس أن الله عز وجل يبتليهم، قد يأتي إنسان ويذهب إلى دجال ويحصل منه على أمر دنيوي من باب الابتلاء، بمعنى أنه قد يجاب دعاؤه من باب العقوبة له والفتنة، والشيطان أيضاً أحياناً يتلبس بأمور كثيرة، وكذلك شياطين الجن قد يكون لهم أثر في ذلك، قد يجلبون لبعض الناس بعض النفع ويدفعون عنهم بعض الضر، مما أعطاهم الله عز وجل من قدرات، فيكون هذا من باب الوقوع في الإثم والشرك، ويكون من باب الفتنة والابتلاء، ولا يعني: أن استجابة الدعاء على الوجه الشرعي.
ومع ذلك فإن الغالب أن من دعا الله خالصاً مخلصاً وبعيداً عن الشرك والدجل أنه يستجاب لهم، والغالب أن من دعا غير الله لا يستجاب لهم، لكن يستجاب للبعض وهذا ابتلاء وفتنة، والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى: [وجواب الشبهة بمنع المقدمتين: فإن قولهم عن المشيئة الإلهية، إما أن تقتضيه أو لا.
ثم قسم ثالث: وهو أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ولا توجبه مع عدمه، وكما توجب الشبع والري عند الأكل والشرب ولا توجبه مع عدمهما، وحصول الولد بالوطء، والزرع بالبذر، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب، فقول هؤلاء كما أنه مخالف للشرع فهو مخالف للحس والفطرة.
ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء وهو: أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومعنى التوكل والرجاء يتألف من موجوب التوحيد و