وقوله: (يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً) الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد، يقتضي قولاً وسطاً بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون منه ظلماً وقبيحاً، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم! فإن ذلك تمثيل لله بخلقه وقياس له عليهم، هو الرب الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون].
هذه العبارة لو قيدت لكان أحسن، وهي قوله: (فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً) لو قال: ليس كل ما كان من بني آدم ظلماً إلى آخره، لكان أفضل؛ لأن هناك أشياء قبيحة تكون ظلماً ولا تجوز في حق الله عز وجل، كما لا تجوز في حق العباد، لا من باب القياس، لكن من باب أنها مما ينزه الله عنها؛ لأن الكامل ليس كالناقص، فالعباد ليس لهم سلطة على العباد، فكل تحكم في الآخرين يعتبر منهم ظلماً، أما الله عز وجل إذا تحكم في عباده فإنما يتحكم في ملكه سبحانه.
فهذا هو الفارق، فالله عز وجل يفعل في خلقه ما يريد، ويفعل في خلقه ما يشاء؛ لأنهم خلقه وملكه، لكن العباد لا يملك منهم أحد ملكاً حقيقياً، فلذلك تحكم العباد بالعباد ظلم إذا كان بغير حق، أما تحكم الله عز وجل بالعباد على ما يشاء فليس بظلم؛ لأنه هو ربهم وهم ملكه، وبيده مقاليد السماوات والأرض سبحانه، ويفعل بملكه ما يشاء.
إذاً: لا يقال: ما يكون ظلماً من العباد يكون ظلماً من الله من كل وجه، فالتقييد يكون أضبط وأولى.
قال رحمه الله تعالى: [وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم، يقولون: إنه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم، بل كل ما كان ممكناً فهو منه -لو فعله- عدل؛ إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي، والله ليس كذلك، فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112].
وقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29].
وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].
وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
وقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، وذلك يدل على نقيض هذا القول.
ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا).
فهذا دل على شيئين: أحدهما: أنه حرم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك.
الثاني: أنه أخبر أنه حرمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس كذلك، فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه لا ما هو ممتنع عليه.
وأيضاً: فإن قوله: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، قد فسره السلف بأن الظلم: أن توضع عليه سيئات غيره، والهضم: أن ينقص من حسناته، كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
وأيضاً فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، حتى يؤمّن من ذلك، وإنما يؤمّن مما يمكن، فلما آمنه من الظلم بقوله: {فَلا يَخَافُ} [طه:112]، علم أنه ممكن مقدور عليه، وكذا قوله: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق:28]، إلى قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، لم يعن بها نفي ما لا يقدر عليه، ولا يمكن منه، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم، فعلى قول هؤلاء: ليس الله منزهاً عن شيء من الأفعال أصلاً، ولا مقدساً عن أن يفعله، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله، بل فعله حسن ولا حقيقة للفعل السوء، بل ذلك ممتنع، والممتنع لا حقيقة له! والقرآن يدل على نقيض هذا القول في مواضع نزه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له، ولا ينبغي له، فعلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء، والفعل المعيب المذموم، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء، والوصف المعيب المذموم، وذلك كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثاً، وأنكر على من حسب ذلك وهذا فعل، وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35].
وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)