قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير: لا حول ولا قوة إلا بالله، نقول: لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد ولا حركة لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره.
غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]].
هنا الإمام الطحاوي رحمه الله في هذه العبارة جارى الأشعري فيما خالف فيه السلف في بعض التعبيرات، لكن الطحاوي ربما يقصد معنى آخر غير ما يقصده الأشعري، وتعلمون أن الأشعري رحمه الله حينما رجع إلى السنة بعد أن كان معتزلياً بقيت عنده بعض النزعات الكلامية، من ضمنها ما يتعلق بمسألة الكسب والاستطاعة، أو تكليف ما يطاق أو ما لا يطاق.
فقوله: (ولم يكلفهم الله عز وجل إلا ما يطيقون) هذا كلام لا بأس به؛ لأن الله عز وجل يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن العبارة الثانية فيها نظر، وهي قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) فهذه فيها نوع من الفلسفة والتكلف، وهي من كلمات الأشعري، ولا يؤيده عليها السلف بهذا الإطلاق، لا يقال: ولا يطيقون إلا ما كلفهم لأنه نوع من الجبر، قد يطيقون أكثر مما كلفهم، لكن الله عز وجل بنى دينه على التيسير وعدم الحرج، وإلا لو كلف الناس بست صلوات لصلوا ست صلوات، لكن الله عز وجل يسر لهم، والله عز وجل فرض علينا خمسين صلاة، ثم خففت إلى خمس بأجر خمسين، وذلك من فضل الله.
فقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) هذا هو مذهب الأشعري الذي يرى أن القدرة لا تكون إلا عند الإرادة، ويرى أيضاً أن إرادة العبد إرادة شكلية ليست إرادة حقيقية، يعني: تأتي بالصدفة مع إرادة الله.
إذاً: فلا يصح أن يقال: (لا يطيقون إلا ما كلفهم)؛ لأنهم قد يطيقون أكثر مما كلفهم، لكن بمشقة وبحرج، والله عز وجل رخص لهم ورفع عنهم الحرج والمشقة، وبنى دينه على التيسير.
أما تفسيره فيما بعد هو تفسير صحيح لا بأس به.
قال رحمه الله تعالى: [فقوله: (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون) قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [المؤمنون:62].
وعند أبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً، ثم تردد أصحابه أنه: هل ورد به الشرع أم لا؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن، وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين الضدين، وهو محال].
الأصل أن السلف يكرهون الحديث في مثل هذه القضايا، كقول أبي الحسن الأشعري: إن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً.
هذه فلسفة في الحقيقة؛ لأن كلمة (جائز) أو (غير جائز عقلاً) هذه سفسطة لا ثمرة لها، وجميع الأمور الاعتقادية أو التفصيلية التي تكلم فيها الناس، والتي لا أصل لها في الشرع، أو لا يترتب عليها عمل فالكلام فيها بدعة، ولذلك بدّع السلف من استعمل علم الكلام أو تحدث به أو تناوله؛ لأنه حديث عن مثل هذه الأمور التي لا مصلحة من ورائها، فما الفائدة من أن الإنسان يتفلسف ويجادل غيره في أن الله عز وجل يكلف ما لا يطاق أو لا يكلف، أو أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً أو غير جائز عقلاً؟ الله عز وجل حكم وشرع لعباده شرعاً بني على قدرات العباد و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وبني على التيسير وانتهى الأمر.
ولو فرضنا أن العقل أجاز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز، فالنتيجة أن هذا أمر لا مصلحة فيه للعباد لا في دينهم ولا دنياهم، ولذلك مثل هذا الكلام يجب أن يجتنبه من يتقي الله ويتورع عن الدخول فيما لا يعنيه؛ لأنه ليس له تعلق بحياة الناس وبعلومهم الطبيعية أو علومهم الشرعية، بل مجرد فلسفة لا طائل تحتها، وعليه يقاس غيره من الأمور التي ليس وراءها لا أمر شرعي ولا مصلحة دنيوية طبيعية.
إذاً: الأصل في علم الكلام النهي؛ لأنه لا فائدة فيه لا في دين الناس ولا في دنياهم.
وهذه الأمور مما أخذت على الأشعري رحمه الله، ودخلت بسببه على كثير من أهل الفضل والعلم، دخلت على كثير من الأشاعرة والماتريدية وغيرهما، بل حتى أحياناً ممن ينتسبون إلى مذهب الإمام أحمد دخلوا في هذه الأمور، مع المهاترات والكلام والردود، وردود على الردود، مثل: الذي يحلم في منامه ينتهي إلى لا شيء.
قال رحمه الله تعالى: [والجواب عن هذا بالمنع، فلا نسلم أنه مأمور بأن يؤمن بأنه لا