الرد على شبهة: كيف يعذب الله المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟

وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين من المعتزلة: أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضروري، وذكر الرازي أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده، ويمتنع عند عدمه ضروري، وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري، ثم ادعاء كل منهما: أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة غير مسلم، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري، وإنما وقع غلطه في إنكار ما مع الآخر من الحق، فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله، وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، فقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] إثبات للقدر بقوله: {فَأَلْهَمَهَا} [الشمس:8]، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه؛ ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية، وقوله بعد ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] إثبات أيضاً لفعل العبد، ونظائر ذلك كثيرة.

وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم، بل مزقتهم كل ممزق، وهي أنهم قالوا: كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم، وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقاً في العالم على ألسنة الناس، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته، وعنه تفرقت بهم الطرق، فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل وسدت باب السؤال، وطائفة أثبتت كسباً لا يعقل، جعلت الثواب والعقاب عليه، وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرَين، ومفعول بين فاعلين، وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه، وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف.

والجواب الصحيح عنه، أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقاً لله تعالى فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها، فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاً.

يبقى أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب، يقال: هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].

فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه عوقب على ذلك، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي؛ فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].

وقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83].

وقال الله عز وجل: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:41 - 42]، والإخلاص: خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته، فخلص لله فلم يتمكن منه الشيطان، وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك تمكن منه بحسب فراغه، فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص، وهي محض العدل].

خلاصة الأمر في هذا الموضوع: أن مسألة أفعال العباد راجعة إلى تصور مراتب القدر أولاً.

ثانياً: تصور معنى الابتلاء، وتصور حكمة الله عز وجل في ذلك، فإن الإنسان إذا تصور المراتب الأربع للقدر، ثم عرف أن الله عز وجل بيّن للعباد طريق الخير وأقدرهم عليه، ورتب عليه الثواب، وبين لهم طريق الشر وحذرهم منه، ورتب عليه العقاب، فهذا أمر يتصوره كل عاقل يعرف شرائع الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان محجوج بهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يقول عاقل بأن الإنسان الحر المختار قصر وجبر على شر دون أن يريده، إلا في حال لا يكلف ولا يحاسب فيها، فمن فقد عقله وفقد الاستطاعة سقط عنه الحساب، لكن في حال قدرته وإمكاناته فإنه محاسب على ما بيّنه الله عز وجل له وأرشده إليه، وبذلك تقوم الحجة، وما وراء ذلك من الإشكالات والشبهات إنما هو من وساوس الشيطان، والله عز وجل ليس بظلام للعبيد، ولا يمكن أن يحدث منه ولا في أفعاله ظلم لعباده.

يبقى ما ورد مما يحدث من أفعال الله عز وجل إذا شاء للعباد فيها، مما هو محجوب عنهم ولا قدرة لهم عليه، مثل: مسألة الشقاء والسعادة المكتوبة سلفاً على العبد، فهذه مسألة محجوبة عن العب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015