قال رحمه الله تعالى: [وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه].
يعني: أن الله عز وجل منفرد بخلق المخلوقات جميعاً، بما فيها أفعال العباد، وهذا حتم لا بد منه، ولو افترضنا أن هناك أفعالاً لا تحدث بقدرة الله ولا بعلمه ولا بمشيئته، فإن هذا يؤدي إلى القول بخالق مع الله، وهذا هو قول المجوس، وقد كفروا بهذا القول.
قال رحمه الله تعالى: [فالجبرية غلوا في إثبات القدر، فنفوا صنع العبد أصلاً، كما غلت المشبهة في إثبات الصفات فشبهوا، والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالِقِين مع الله تعالى، ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة، بل أردأ من المجوس من حيث إن المجوس أثبتت خالِقَين وهم أثبتوا خالِقِين].
قوله: (بل أردأ من المجوس) نقول: قول المجوس من أشنع الأقوال؛ لأن المجوس صرحوا بأن الخالق الآخر إله، وعبدوه من دون الله عز وجل، فلاشك أن مقولتهم إذا نظرناها من جميع الوجوه أشد وأشنع وأكفر من مقولة المعتزلة الجهمية أو المعتزلة القدرية، لكن قد يكون قول المعتزلة من بعض الوجوه أشد، وإلا فقول المجوس قول شنيع، ولاسيما أنهم نسبوا خلق الشر إلى إله آخر وعبدوه من دون الله، وأحياناً يقولون: إنه الشيطان، وعبدوا الشيطان، وهذا سبب نزعة عبادة الشيطان عند عبدة الشيطان الموجودين الآن في بعض البلاد.
وعبدة الشيطان لهم اصطلاحان: اصطلاح يطلق على طائفة قديمة هم امتداد للمجوس، وانتموا إلى بعض الفرق الإسلامية، وهؤلاء عباد الشيطان الذين في العراق وأجزاء من سوريا وشمال هذه المنطقة، هؤلاء نزعتهم نزعة مجوسية، فهم يعبدون إبليس نسأل الله العافية؛ لأنهم يرون أن له قدرة، ويستقل بخلق بعض الأفعال، منها: خلق الشر، وهناك صنف آخر من عبدة الشيطان، وهم الذين ظهروا أخيراً ويمارسون بعض الطقوس، وبين الفكرتين شيء من التشابه، لكن هذه فيها سذاجة ونوع من عدم التعمق الفكري، بينما تلك كانت متأصلة ومغرقة في الوثنية.
على أي حال هناك شبه بين قول المعتزلة والقدرية وبين قول المجوس، من حيث قولهم بأن الإنسان هو خالق أفعاله، أو ألزموا بهذا القول فجعلوا جميع العقلاء خالِقِين لأفعالهم، بينما المجوس أثبتوا خالقاً آخر مع الله فقط، هذا من الناحية العددية، وإلا من حيث شناعة القول فلاشك أن قول المجوس أشنع، وقول القدرية إنما هو امتداد لقول المجوس، وأغلب الذين نشروا قول القدرية إما أنهم مجوس أو أخذوه عن المجوس مباشرة، وقول القدرية كما أنه موجود في المجوسية، كذلك هو موجود عند بعض الفرق الصابئة، وعند بعض فرق اليهود، وبعض فرق النصارى، ويدل عليه قصة بطريرك الشام قسطنطين الذي سلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس، فإن عندهم هذه النزعة القدرية بعينها، أي: القول بأن الإضلال ليس من تقدير الله، فلذلك لما خطب عمر رضي الله عنه الناس في الجابية قال: ومن يضلل فلا هادي له، قام هذا الأسقف النصراني واعترض على عمر هذا القول، وقال: إن الله لا يضل أحداً، فلما سمع عمر رضي الله عنه مقولته هدده بالقتل.
فإذاً: هذه المقولة موجودة عند النصارى وعند اليهود، لكن أصلها من المجوس، ولا شك أن نشأتها بين المسلمين جاءت من خلال النصارى والمجوس واليهود والصابئة.
قال رحمه الله تعالى: [وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فكل دليل صحيح يقيمه الجبري، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش، وهبوب الرياح، وحركات الأشجار.
وكل دليل صحيح يقيمه القدري، فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى، فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم].
هذا الأمر يذكرنا بضرورة استحضار مراتب القدر، وسبق الكلام عنها أكثر من مرة، لكن من المناسب الآن أن نستحضرها جيداً، فمراتب القدر أربع جاءت في النصوص القطعية، لا بد من الإلمام بها جميعاً؛ من أجل أن يحكم المسلم عقيدته في هذا الأمر، ويعرف الرأي المخالف بهذا الميزان معرفة واضحة بلا تردد ولا التباس.
المرتبة الأولى: العلم، وهي أن جميع المخلوقات لله عز وجل بما في ذلك أفعال العباد تخضع أولاً لمرتبة العلم، وأن الله عز وجل علمها أصلاً.
الثانية: الكتابة، وهي أن الله عز وجل