قال رحمه الله تعالى: [والقدرة التي يكون بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة.
وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، فقد تتقدم الأفعال].
يعني: أنه قسم أفعال العباد هنا إلى قسمين وهذا هو الصحيح.
القسم الأول: كون الإنسان قادراً على الفعل قبل فعله، فيما يقدره الله عليه.
القسم الثاني: التمكن من الفعل أثناء الفعل.
وقال السلف بالأمرين: إن الإنسان فاعل وقادر حتى قبل أن يتمكن، وإذا فعل فإنه فاعل بقدرة أقدره الله عليها أثناء الفعل.
وهذا مما خالف فيه الأشاعرة حيث قالوا: القدرة لا تكون إلا أثناء الفعل فقط.
وكذلك الجبرية الجهمية وبعض المعتزلة خالفوا وقالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، أما أثناء الفعل فالإنسان مجبور على الفعل، وكونه قادراً فالله عز وجل جبره أن يفعل بالقدرة السابقة.
إذاً: قول الجبرية أن الإنسان قادر على أن يفعل الأشياء التي يقدر عليها، لكن قدرته أو فعله للشيء أثناء الشروع في الفعل لا يعد قدرة جديدة ولا استطاعة، إنما يعد مما جبر عليه.
وكلا القولين خطأ، والصواب هو أن الله عز وجل أقدر العباد وأوجد فيهم القوة الكاملة الفطرية والغريزية على الفعل، ثم أثناء الفعل أيضاً هيأ الله عز وجل لهم التمكن من الشروع في الفعل.
قال رحمه الله تعالى: [وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فأوجب الحج على المستطيع، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج، ولم يعاقب أحداً على ترك الحج، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام].
يعني: أن الله عز وجل رتب الحكم على التمكن والقدرة، لا على ذات الفعل، فالله تعالى أوجب الحج على من تمكن وقدر عليه، فإن فعل قام بالواجب، وإن لم يفعل لم يقم بالواجب، ولم يرتب الحكم على الفعل؛ لأنه لم يقل: إن الحج لا يجب إلا على من باشر الحج، بل ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أن الحج واجب على المستطيع، فرتبا الحكم على التمكن والقدرة والاستطاعة لا على الفعل ذاته، وهذا دليل على أن الإنسان قادر ومتمكن، وتوجد عنده الاستطاعة قبل الفعل، وأنه لو لم توجد عنده، لسقط عنه التكليف، لكن الأصل وجود الاستطاعة والتمكن والقدرة في عموم العباد المكلفين.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى، ولم يعاقب من لم يتق، وهذا معلوم الفساد.
وكذا قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4] والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات.
وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:42] وكذبهم في ذلك القول، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل، ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين، وحيث كذبهم دل أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال، على ما بين تعالى بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة:91] إلى أن قال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التوبة:93].
وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] والمراد: استطاعة الآلات والأسباب.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) وإنما نفى استطاعة الفعل معها.
وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة، فقد ذكروا فيها قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] والمراد نفي حقيقة القدرة، لا نفي الأسباب والآلات؛ لأنها كانت ثابتة].
يعني: أن هذه الآية تعني نفي الفعل لا نفي أصل القدرة؛ لأن الله عز وجل ما نفى أصل القدرة على السمع والبصر، وإنما جعل لهم أسماعاً وأبصاراً، لكن نفى أن يكون الله عز وجل وفقهم للسمع والبصر على الوجه الصحيح، وإنما خذلهم الله عز وجل فأعمى قلوبهم وأبصارهم وجعلهم لا يفعلون، أما أصل القدرة فهي موجودة، ولذلك جعل الله عز وجل التكليف مناط الثواب والعقاب.
إذاً: كونهم ما يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون فيه نفي الشروع في الفعل لا نفي أصل القدرة، فالله عز وجل لم ينف عنهم أصل القدرة، لأن الله أعطاهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، لكنه عاقبهم بالخذلان، بسبب ذنوب وأعمال اقترفوها.
قال رحمه الله تعالى: [وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قو