قال رحمه الله تعالى: [ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجلِّ الأعظم على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل، فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتداراً، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81]، فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتهما وعظم شأنهما وكبر أجسامهما وسعتهما وعجيب خلقهما، أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف:33].
ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلة ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: (كن) فإذا هو كائن، كما شاء وأراده.
ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245].
ومن هذا قوله سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]، فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كما قال تعالى: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، إلى آخر السورة.
فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شق سمعه وبصره، وركّب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أشده، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته.
فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب، بالقول الوجيز، الذي لا يكون أوجز منه، والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.
وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5]، إلى أن قال: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] إلى أن قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16].
وذكر قصة أصحاب الكهف، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة شمسية، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، وقال فيها: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21].
والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة لهم في المعاد خبط واضطراب، وهم فيه على قولين: منهم من يقول: تعدم الجواهر ثم تعاد.
ومنهم من يقول: تفرق الأجزاء ثم تجمع.
فأورد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا، لم تعد من هذا؟ وأورد عليهم: أن الإنسان يتحلل دائماً، فماذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض، فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني، والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، ليس فيه شيء باق، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان.
والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل تراباً، ثم ينشئها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاماً ولحماً، ثم أنشأه خلقاً سوياً، كذلك الإعادة، يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في الصحيح عن