قال رحمه الله تعالى: [وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح، وروى البخاري في الصحيح عن سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول له: أنظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعاً)، قال قتادة: وروي لنا أنه يفسح له في قبره، وذكر الحديث.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
وفي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر أحدكم -أو الإنسان- أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر وللآخر: النكير) وذكر الحديث.
وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا تتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له به في هذا الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا].
كون الشرع لا يأتي بما تحيله العقول صحيح، بمعنى أنه لا يمكن أن يأتي بشيء يخالف العقل السليم؛ لأن العقل السليم مفطور على الاستقامة، وعلى التوافق مع الوحي؛ لأن الوحي هو كلام الله، والعقل السليم من خلقه، ولا يمكن أن يتعارض الخلق مع الأمر، فخلق الله وأمره متوافقان، لكن العقول المشوشة أو التي اعترضتها الأهواء، أو سوء التربية أو الجهل، أو تنازعتها المذاهب وأقوال الناس؛ ربما يتخيل أصحابها تخيلاً أو توهماً يحيله العقل، لكن المقصود هنا العقل السليم المهتدي بهدي الله عز وجل، فإن هذا العقل أي السليم الذي على الفطرة السلمية لا يمكن أن يتصور من أمور الشرع ما يناقض العقل.
لكن قد يأتي الشرع بما تحار فيه العقول، بمعنى أنه قد يأتي في الشرع ما لا تدركه العقول، فتحار فيه، والحيرة متوجهة إلى العقل بقدراته الناقصة، لا إلى الشرع، فحينما نقول: إن الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول؛ فإن الحيرة أتت من قصور العقول، لا من كون كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم يشتمل على المحارات في ذاته، أو على الأمور المحيرة المتشابهة، فهذا لا يمكن، لكن الحيرة تأتي من قصور العقل، والعقل مخلوق، والمخلوق محدود ويعتريه السهو والنسيان والخطأ، والفناء، والهوى، ونوازع الشيطان، وغير ذلك من الأمور التي تعتري العقل، فقد يحار في بعض الأمور التي جاء بها الشرع.
وحيرته لا تعني أن الشرع اشتمل على محارات، فالشرع لا يأتي إلا بالأمر البين، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدين بالواضحة البيضاء التي ليلها كنهارها، والوضوح لا يمكن أن يكون فيه شيء من المحارات، إنما المقصود أن عقول بعض البشر قد تحار في بعض الأمور الغيبية التي جاءت في كتاب الله، أو صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.