أما كون هذه القاعدة هي الفارق بين أهل السنة والجماعة فيمكن أن نستعرض هذا بإيجاز، فنقول: إن الخوارج حينما تواردت عليهم نصوص الوعيد اشتبه عليهم الأمر نظراً لقلة علمهم، وما ردوا نصوص الوعيد إلى نصوص الوعد أولاً؛ لأنَّ مداركهم ضعفت عن ذلك، ولم يرجعوا إلى العلماء، وربما رجعوا لكنهم لم يسلموا لأهل العلم من الصحابة، ذلك أن الخوارج كانوا من الفئات التي تستهين بالعلماء، لا ترى لأحد من الناس فضل علم، لذلك كانوا يلمزون الصحابة ويرون أنهم علماء دنيا وأنهم قعدوا عن الجهاد إلى آخره، فلما لمزوا الصحابة ولمزوا العلماء تركوهم وجفوهم، فلما جفوهم وكلهم الله إلى مداركهم الضعيفة، فقالوا على الله بغير علم، ولم تتسع مداركهم للجمع بين النصوص، فغلبوا نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فصاروا وعيدية يكفرون بالذنوب، وصار هذا منهجاً باطلاً ابتليت به الأمة إلى يومنا هذا.
ثم جاءت القدرية، فالقدرية حينما جاءت نصوص القدر ولم يفهموها ما ردوها إلى أهل العلم.
ولذلك وصف معبد الجهني -وهو أول قدري- بأنه طلب العلم وكان عنده تعجل وتسرع، وأنه لم يستوعب العلم من العلماء، فأخذ نصوص القدر برأيه وضعفت مداركه عن الجمع بين نصوص القدر، فتوافق رأيه مع رأي بعض فئات من النصارى والصابئة والمجوس، ففرح بذلك وظن أن هذا مذهب من المذاهب التي تقتدى، فأعلن القول بالقدر؛ ولم تستوعب مداركه نصوص القدر، ولم يعرف قواعد الجمع بين النصوص، ولم يرجع إلى العلماء، وما سلم لله عز وجل، بل خاض في القدر برأيه، فصار مذهبه من أخبث المذاهب إلى يومنا هذا.
وهكذا بقية الفرق، كلهم على هذا المنهاج، ومن متأخريهم أهل الكلام الذين خالفوا السلف في الصفات، فأهل الكلام حينما جاءتهم نصوص الصفات وما استوعبوا منهج السلف في تقرير صفات الله عز وجل ما فهموا ولا أذعنوا لأهل العلم، بل اتهموا أهل العلم بالحشوية، واتهموهم بأنهم عندهم سلامة قلوب وسذاجة ونوع من الغباء والغفلة إلى آخره.
فلما اتهموا أهل العلم وأئمة الدين في ذلك استقلوا عنهم، وما استوعبت مداركهم الإيمان بالصفات، بل اشتبهت عليهم، فعدوها من المتشابهات مع الأسف، وإلى اليوم يعد أهل الكلام نصوص صفات الله عز وجل من النصوص المتشابهة، وليتهم حينما اشتبهت عليهم ردوها إلى عالمها، ولو فعلوا لأحسنوا؛ لأن هذا منتهى مداركهم، لكن ما فعلوا، بل خاضوا فتكلموا في صفات الله بغير علم، وقالوا -مثلاً-: لا يعقل أن يكون الرحمن على العرش استوى، لا بد أن يكون المعنى غير ذلك، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنها اشتبهت.
فلما اشتبهت ما ردوها إلى عالمها، بل خاضوا فيها، وما اتفقوا على رأي في هذا الأمر.
فصفات الله عز وجل الذاتية كاليد والقدم إلى آخره، والصفات الفعلية كلها أولوها، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنها اشتبهت، فقيل لهم: أما تعرفون القاعدة في الاشتباه؟ إن الذي يشتبه يرجع للعلماء، فإن فهمتم قول العلماء وإلا فالعيب في عقولكم، فردوا الأمر إلى عالمه وقولوا: آمنا بما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: مسألة الخوض في المتشابه هي الفارق بين أهل الأهواء وبين أهل السنة، فأهل السنة أولاً ليس عندهم اشتباه، لكن إذا اشتبه عليهم شيء قالوا: آمنا بما جاء عن الله على مراد الله عز وجل، وأهل الأهواء كلهم خاضوا في المتشابه، فكانت أصولهم كلها تقوم على هذا الأصل.