[المسألة الخامسة] :
مَثَّلَ بعد ذلك بأمثلةٍ للأهواء والآراء والمذاهب فقال (مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، الخ)
هذه الفئات يُطْلَقُ عليها أهواء، ويُطْلَقُ عليها فِرَقْ، ويُطْلَقُ عليها أراء، ويُطْلَقُ عليها مذاهب.
فيصح أن تقول المعتزلة من الأهواء كما يستعملها السلف أو يعني أئمة السنة في القرون الأولى، وقد يقولون (الجهمية مذهبٌ رَدِي) ، أو (إياك وهذه الأهواء) (?) ،، وهو جَمَعَهَا لاستعمال الأئمة في وقته وما قبله لها.
فإذاً المعتزلة أهواء، والجهمية أهواء وآراء ومذاهب.
إذا تَبَيَّنَ ذلك فنفصل الكلام في معنى هذه الفِرَقْ:
1- الفرقة الأولى الْمُشَبِّهَةِ:
ظهرت فرق شَبَّهَتْ الله - عز وجل - في الصفات بخلقه سواءٌ أكانت صفات الذات أو صفات الأفعال، ويُحْكَى هذا عن طائفة كالجَوَارِبِيِّ ونحوه ويقال لهم المُجَسِّمَة كما عند مقاتل بن سليمان ونحوه.
والمقصود بها تشبيه الله - عز وجل - بخلقه، ويريدون بالتشبيه التمثيل، فيقولون: وجه الله كوجه الإنسان، كوجه ابن آدم، ويده كيده، وعيناه كعيني ابن آدم، وأصابعه كأصابعه الخ. ويقولون: إنَّ هذا مقتضى النص، مقتضى النص المشابهة، مقتضى النص المماثلة.
وهؤلاء يقال لهم أيضاً المُجَسِّمَة، وقد ذكرت لكم فيما سبق أنَّ كلمة (التشبيه) فيها بحث، وأنَّ الذي جاء في النصوص هو التمثيل، فهم مُجَسِّمَة مُمَثِّلَة مُشَبِّهَة، تصح هذه الاستعمالات جميعها.
وثَمَّ قسم ثاني من التشبيه لا يدخل في هذه الفئة أو الطائفة أو المذهب، وهو تشبيه المخلوق بالخالق، وأن يُجعَلْ للإنسان صفات مثل صفات الله - عز وجل -.
مثل عيسى عليه السلام جَعَلُوهُ إلهًا وجعلوا له صفات، تُخْتَصُّ به كصفات الله، ومثل الذين عبدوا الأولياء والموتى، جعلوا لهم التَّصَرُّفْ في الربوبية، وجعلوا لبعضهم ربع العالم، ولبعضهم سبع العالم، ولبعضهم جزءًا من أربعين جزءًا من العالم، حتى إنَّ بعضهم أَلَّفْ في أَنَّ في بلدة كذا أربعين من الأولياء الصّالحين هم الذين بيدهم تصريف أمورها من الأموات، وثَمَّ رسائل كثيرة في ذِكْرِ هذا الأمر.
وهؤلاء الذين شَبَّهُوا المخلوق بالخالق في التصرف في الربوبية، -يعني في الملك- جعلوه بتفويض الله له نعم، لكنهم جعلوا التَّصَرُّفَ له.
وهم على أربع فئات:
- منهم من جَعَلَهُ لواحد وهو المُسَمَّى عندهم الغوث الأكبر أو القطب الأعظم أو نحو ذلك.
- ومنهم من جَعَلَ التصرف في الأرض بهذا الملكوت لأربعة من الأولياء، ويختلفون في تحديد الأربعة.
- ومنهم من جعله لسبعة.
- ومنهم من جعله لأربعين.
والصوفية الغلاة الذين يَدَّعُونَ هذه الادعاءات الباطلة التي خالفوا بها طريقة السلف أصلاً وفرعاً وسلوكاً، واتَّبَعُوا أهل الضلال والكفر، ألَّفُوا كُتُبَاً كثيرة في هذا الباب في تَصَرُّفِ هؤلاء في الملكوت أو في أرزاق أهل الأرض أو في أحوالها.
والكلام حول الفِرَقْ يطول تأخذونه من المطولات.
2- الفئة الثانية المعتزلة:
والمعتزلة هم أتباع عمر بن عبيد وواصل بن عطاء اللذيْن كانا من تلامذة الحسن البصري كما هو معلوم، ولما دَخَلُوا في البحث في مسائل الإيمان يعني الأسماء والأحكام، الإيمان والحكم على مرتكب الكبيرة والكلام على الصحابة الذين تقاتلوا، خالف عمرو بن عبيد الحسن، كذلك واصل ابن عطاء فاعْتَزَلَا حلقة الحسن البصري، فسُئِل الحسن البصري عنهم فقال هؤلاء المعتزلة، فبقي الاسم عليهم، فكثر أتْبَاعُهُمَا حتى تَقَعَّدَ مذهبهم وسُمِّيَ بمذهب المعتزلة.
فبنوا ذلك بعد الانعزال وتفصيل المذهب والنقاشات وما حَصَلَ من تطوّر فيه، بنوه على أصولٍ خمسة عندهم، وهي المسماة بالأصول الخمسة عند المعتزلة وهي:
- التوحيد.
- والعدل.
- والوعد والوعيد.
- والمنزلة بين المنزلتين.
- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأُلِّفَتْ فيها المؤلفات لتقعيدها في القرن الثاني الهجري.
وهذه الأصول الخمسة جعلوها أُصُولَاً عقلية، دَلَّ عليها العقل، وأما الدليل النقلي أو السمع، فهو تابعٌ لها، ولهذا جعلوا دليلهم في الغيبيات ودليلهم في الأصول الخمسة، جعلوه دليلاً واحداً وهو العقل، هوالحجة والنقل مُفَصِّلٌ له أو تابِعْ أو شاهد كما يزعمون.
فهذه الأصول الخمسة تَمَّ تفاصيل لهم فيها تأخذونها من مواطنها.
والمعتزلة فئات وفِرَقْ مُخْتَلِفَة، فيه معتزلة البصرة وهم الأوائل، وثَمَّ معتزلة بغداد وهؤلاء هم الذين قَعَّدُوا مذهب الاعتزال وأَلَّفُوا فيه وأجابوا عن الشُبَهِ عليه.
وهناك من أَلَّفَ في طبقات المعتزلة وفِرَقْ المعتزلة.
والمعتزلة قد يتفقون في المسألة وقد لا يتفقون، ولذلك تجد في بعض المسائل يقال مذهب المعتزلة كذا، لكن إذا بحثت وجد فيه اختلاف، فمن أثبت يكون مصيباً ومن نفى يكون مصيباً باعتبار من نقل عنه، وباعتبار مدارس المعتزلة وفرق أهل الاعتزال.