: [[الشريط الثاني والخمسون]] :
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
س1/ هل الميت يعلم عن الأحياء أخبارَهم؟ فقد سمعتُ من بعض أهل العلم من يقول ذلك وآخر ينفيه، وآخر من يقول هذه المسألة لا أحد يسأل عنها لأنها من علم الغيب؟
ج/ هذه المسألة من المسائل المهمّة جداً، وكما ذكر السائل تنوَّعَتْ أقوال العلم فيها ما بين نافٍ مطلقاً وما بين مثبتٍ مطلقاً وما بين مفصلٍ للمسألة بحسب ما ورد في الدليل.
والصواب في ذلك التفصيل.
- فمن نَفَى مطلقاً بأنَّ الأموات لا يسمعون ولا يعلمون؛ بل انقطع سبيلهم، استدلوا بقول الله - عز وجل -: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] ، واستدلوا أيضاً بأنَّ الميت انقطع من هذه الدنيا وارتحل إلى الآخرة وهو مشغولٌ عن هذه الدنيا بالآخرة، وهو في حياة برزخ، وحياة البرزخ مختلفة عن هذه الحياة، فَصِلَتُه بهذه الحياة تحتاج إلى دليل، ولا دليل يدل على سماعه مطلَقَاً فلذلك وجب نفيه لدلالة قوله {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، ولم يدل أيضاً الدليل على أنَّ الملائكة تُبَلِّغْ الأموات الأخبار والأحوال، فبنوا على هذا النفي العام بأنَّ الميت لا يسمع شيئاً.
- والقول الثاني أنَّ الأموات يسمعون مطلقاً ويُبَلَّغُون، يعني يسمعون ما يحدث عندهم ويُبَلَّغُونَ ما يحصل من أهليهم وأقاربهم من خيرٍ وشر، فيأنسونَ للخير ويستاءون للشر، وهؤلاء بَنَوا كلامهم على أنَّ في الأدلة ما يدل على جنس سماع الميت لكلام الحي:
كقوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» (?) ، واستدلوا بهذا على أنه يسمع.
ويستدلون أيضاً ببعض الأحاديث الضعيفة كحديث التلقين، حديث أبي أمامة الضعيف في التلقين ونحوه بأنه يسمع بعض السماع.
ويستدلون أيضاً بما ورد من الأحاديث بأنَّ الملائكة تُبَلِّغْ الميت بأخبار أهله من بعده، ويعرضون عليه ما فعلوا فإن وجد خيراً فَرِحْ واستبشر وإن بُلِّغ غير ذلك استاء من أهله.
ويستدلون أيضاً بما يحصل للأحياء من رؤيةٍ لأرواح الأموات في المنام، وأنهم ربما قالوا لهم فعلت كذا وفعلت كذا وأتانا خبرك بكذا ونحو ذلك.
وهؤلاء أيضاً في مسألةٍ خاصة استدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صناديد قريش لمَّا دَفَنَهُم في القليب ورماهم فأطَلَّ عليهم صلى الله عليه وسلم، وقال لهم «هل وجدتُّم ما وعد ربكم حقا؟ فإنّي وجدت ما وعد ربي حقاً» ، قالوا له: يا رسول الله أتُكَلِّمُ أمواتاً؟ قال: «ما أنتم بأسمع لي منهم» (?) ، واستدلوا بهذا اللفظ: «ما أنتم بأسْمَعَ لي منهم» على أنهم يسمعون، وإذا كانوا يسمعون فإنهم لهم نوع تعلق بالدنيا فلا يمنع أن يُبَلَّغُوا ويُقَوِّيْ ما جاء في هذا الباب من أحاديث.
- والثالث وهو الصواب، التفصيل، وهو أنَّ المَيّت يسمع بعض الأشياء التي ورد الدليل بأنه يسمعها، والأصل أنَّ الميت لا يُسَمَّع لقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، وأنه أيضاً لا يسمع، فما خَرَجَ عن الأصل احتاج إلى دليل، وكذلك التبليغ -تبليغ الأخبار- أيضاً خلاف الأصل، ولهذا كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله جعل له ملائكة سيّاحين في الأرض يُبَلِّغُونَهُ من أمته السلام.
وهذا هو الأقرب للدليل، وهو الأظهر من حيث أصول الشريعة، وهو أنَّ الميت لا يسمع كل شيء، لا يسمع من ناداه، لا يسمع من أتاه يُخْبِرُهُ بأشياء، وأنه لا دليل على أنّه يُبَلَّغ ما يحصل لأن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الأحاديث الواردة في ذلك بأنه يُبَلَّغ ونحو ذلك أنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها الحجة.
فينحصر إذاً سماعه فيما دل الدليل عليه، وهو أنه يسمع قرع النعال وأنَّ أهل بدر سمعوا، يعني أنَّ المشركين من صناديد قريش سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، لهذا في الرواية الثانية الصحيحة أيضاً أنه قال لما قالوا له: أتكلم أمواتاً؟ قال: «ما أنتم بأسمع لي منهم الآن» (?) وهذه الرواية ظاهرة الدلالة بأنَّ إسْمَاعَهُمْ وتكليمهم هو نوع تبكيت وتعذيب لهم، وزيادة «الآن» زيادة صحيحة ظاهرة وبها يجتمع قول من نفى وقول من أثبت، فيكون الإثبات بالسماع فيه تخصيصٌ لهم بتلك الحال لازدياد تبكيتهم وتعذيبهم أحياء وميتين.