[المسألة التاسعة] :
الكرامة إذا أعطاها الله - عز وجل - الولي فإنَّهُ ليس معنى ذلك أنَّهُ مُفَضَّلٌ وأعلى منزلة على من لم يُعْطَ الكرامة.
فالكرامة إكرامٌ وإِنْعَامْ من الله - عز وجل - للعبد لأجل حاجته إليها، وقد تكون حاجته إليها دينية وقد تكون حاجته إليها كونية دنيوية.
لهذا قَلَّتْ الكرامات عند الصحابة، فالمُدَوَّنْ من الكرامات بالأسانيد الثابتة عن الصحابة أقل بكثير مما يُروَى عن التابعين، وهكذا فيمن بعدهم؛ لأنَّ المرء إذا قَوِيَ إيمانه وقَوِيَ يقينه فإنه قد يُتْرَكْ للابتلاء لا للتفريج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في الصحيحين: «يُبتلى الرجل على قدر دينه، أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ، «يُبتلى الرجل على قدر دينه» (?) .
وهذا يدل على أَنَّ الله - عز وجل - قد يختار للولي الصالح وللعبد الصالح الذي تَعْظُمُ منزلته في وَلَايَةِ الله - عز وجل - وإكرامه ومحبته له في أن يتركه للإبتلاء، وأن يتركه لغير هذه الأمور الخارقة للعادة.
فتكون إذاً هذه الخوارق للعادة وهذه الكرامات لحاجته إليها ولأنه قد يصيبه ضعف في الإيمان لو لم يُعطَ.
فبعض الناس قد يكون عنده عبادات عظيمة وقيام وصلاة وصيام ثُمَّ إذا أصابته شدة ولم يُفَرَّجْ عنه فإنه قد يعود على قلبه بالضعف في الإيمان، فيُكْرِمُهُ الله - عز وجل - لأجل ضعفه لا لأجل كماله.
ولهذا فإنَّ باب الكرامة ليس معناهُ تفضيل من جرت له، فقد يكون مُفَضَّلاً وقد لا يكون، فليست الكرامة بمجردها دليلاً عند السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام؛ بل الإيمان بالكرامات -كرامات الأولياء- لأجل وجودها وأنَّ الله - عز وجل - يُكْرِمْ بها عباده وأَنَّ الأدلة دَلَّتْ على ذلك وليس من أجل تفضيل من حصلت له الكرامة فقد يكون أقل درجة بكثير ممن من لم تحصل له الكرامة.
إذا كان كذلك، فإنه حينئِذْ من دُوِّنَتْ عنه الكرامات لا يلزم أن يكون أعلم ولا أفضل ولا أن يُقْتَدَى به ولا أن تُؤْخَذْ أقواله لأجل أنَّهُ حصلت منه الكرامة؛ بل لم يزل الصَّالحون إذا حصلت لهم مثل هذه الأنواع من الكرامات لم يزالوا يكتمونها ولا يُشيعُونَها لأَنَّهَا قد تكون في حقّهم من الفتنة، وهم لِعِلْمِهِمْ بالله - عز وجل - وما يستحقه - جل جلاله - من الطاعة والإنابة والإقبال عليه أَنْ لا يَفْتِنُوا الناس بذلك.
وهذا من أسباب أنَّ المنقول عن الصحابة من الكرامات قليل جداً، وعند التابعين أكثر، ثُمَّ هكذا، كلما ضَعُفَ الناس كلما أَحَبُّوا إذا حصل لهم أي شيء أن ينشروه وأنْ لا يكتموه.
لهذا نقول: الواجب على الناس أن لا يعتقدوا فيمن حصل له إكرام أو كرامة.
أن لا يعتقدوا فيه؛ بل يقولون: هذا دليل على إيمانه وتقواه إذا كان مُتَحَقِّقَاً بالإيمان والتقوى، وهذا دليلٌ على محبة الله - عز وجل - له.
وهو يَسْأَلْ لنفسه الثبات ويحرص على ذلك.
وهم أيضاً لا يأمنون عليه الفتنة، وإذا مات على هذه الحال أيضاً من الصّلاح والطاعة فإنه يُرْجَى له الخير ولا تتعلق القلوب به، أو يُستغَاثْ به أو يُؤْتَى لقبره ويُسْتَنْجَدْ به أو يُطْلَبْ منه تفريج الكربات أو يُرَاعَى وهو في غيبته في حال الحياة ونحو ذلك كما يفعله ضُلَّالْ أصحاب الطرق الصوفية ومن يعتقدون فيه ممن ينتسبون للأولياء وربما لم يكونوا منهم.
لهذا فالواجب على المؤمن أن لا يتحدث بهذه إلا إذا رأى ثَمَّ حاجة دينية لذلك، أما إذا كانت لأجل إظهار منزلته أو لإظهار إكرام الله - عز وجل - له ونحو ذلك، فهذا الأفضل كتمانها سِيَّمَا إذا كان مع إظهارها والتحدث بها فتنة قد تصيب البعض، وإذا كان في مثل هذه الأزمنة التي يظهر فيها الجهل ويتعلق الناس بمن ظهر عليهم الصلاح لأجل الاعتقاد فيهم فإنه يجب على المؤمن أن يصد وسائل الشر وأن يسد ذرائع الشرك والغلو التي منها ذكر الكرامات وتداول ذلك.