[المسألة الثالثة] :
من أدلة أهل السنة والجماعة على أصل الانتفاع قول الله - عز وجل - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10] فأثنى عليهم بالدعاء وهذا يقتضي الإنتفاع.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (?) .
وفي الصحيح أيضاً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: إن أمي أُفْتُلِتَتْ نفسها -يعني ماتت فجأة- وإنها لو تكلمت لأوصت أو لتصدقت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال «نعم» (?) .
وجاء أيضاً في صدقات الصحابة عن الأموات الشيء الكثير.
كذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يحج عن ميتٍ له فأذن له بالحج.
وفيه أيضاً أنَّ امرأة قالت: إنَّ أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ قال «أرأيت إن كانت على أمك دين أكنت قاضيته؟» قالت: نعم. قال «فاقض عنها، فإن الله أحق بالقضاء» (?) .
ونحو ذلك في هذا الباب.
أيضاً مما يدخل فيه مع تنوع الأعمال أصل الوقوف؛ يعني أصل الأوقاف، فإنَّ الصحابة ما كان منهم أحد له فضل مال إلا وحبس يعني أَوقَفَ -أوقف على نفسه- وهذا مما ينفعه ويدخل في قوله «صدقة جارية» .
وأما الذين قالوا إنه لا ينتفع إلا بالعبادة المالية قالوا:
إنَّ هذه المسائل منها:
- ما هو مُجمعٌ عليه، وهذه اتَّفَقْنَا عليها وهي الصورتان الأوليان.
- ومنها ما هو مُخْتَلَفٌ فيه وهي العبادات البدنية فهذه لم يأت دليل فيها؛ بل جاء الأثر عن ابن عباس بأنه قال (لا يصل أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد) (?) فهذا يدل عن امتناع أن يكون أحد يصلّي عن أحد أو يصوم أحدٌ عن أحد.
وأجاب الأولون عن ذلك بـ:
- أنَّ الصيام جاء فيه أنَّ الحي يصوم عن الميت إذا كان عليه صيام، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره «من مات وعليه صوم صام عنه وليه» (?) يعني صوم واجب.
وهل الصوم الواجب هذا صوم النذر كما في الرواية الأخرى؟ أو كل صيامٍ واجب سواءٌ أكان صيام رمضان الواجب الذي لم يقضه مع إمكانه القضاء، أو صيام الكفارات أو نحو ذلك؟
خلاف بين أهل العلم؛ ولكنهم قالوا: إنَّ الحي يصوم عن الميت الصيام الواجب بدلالة السنة على ذلك.
- وأيضاً قالوا: إنَّ ما جاء في السنة من الأحوال هذه جاءت جواباً عن أسئلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم سُئِلْ عن الصدقة فأوصى بها، سُئِلْ عن الحج فقال «حُج» أو قال «حُجي» ونحو ذلك.
وهذه الأسئلة لا تفيد العموم فلا يُفْهَمْ من جواب السؤال أنه لا يجوز إلا فيما جاء السؤال والجواب عنه؛ لأنَّ السائل ليس هو المُشَرِّعْ، وإنما جواب النبي صلى الله عليه وسلم كان بقدر السؤال.
ولهذا كان الأقرب أن يُعَمَّ ذلك وأن يُقَال إنَّ ما جاء الإذن فيه دَلَّ على وصول جنس الثواب دون تفريق لأنَّ التفريق ما بين نوع ونوع يحتاج إلى دليل، وهذه المسائل لم يبتدئها الشارع وأَذِنَ بكذا وكذا أصلاً يعني ابتداء وإنما كان إجابة لأسئلة.
وبين هذا الاستدلال وهذا الاستدلال ذهب المفتون من العلماء إلى أحد هذين القولين من المتقدين والمتأخرين:
@ فمنهم من يقول بالتعميم كما قال ابن القيم وجمهور السلف والإمام أحمد وأصحابه وابن تيمية وابن القيم وطائفة من أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى.
@ ومنهم من يقول بقول مالك والشافعي بأنه يُقْتَصَرْ على ما ورد دون غيره.
وهذا تجد من يفتي به وهذا تجد من يفتي به.
* والأقرب في ذلك هو التفصيل وهو أنَّ إهداء الثواب غير ابتداء العبادة، فهما صوراتان:
1- الصورة الأولى إبتداء العبادة:
ابتداء العبادة هذا عبادة فيحتاج إلى دليل يدلُّ على أنَّ المرء ينوب عن غيره عن حيٍ أو ميت في العبادة، فيبتدئ العبادة عن فلان، وهذا لابد فيه من التوقيف لأنَّ الأصل عدمه، وجاء الإذن في العبادات المالية فينبغي أن يكون أن يُقْتَصَرْ عليها بل يجب أن يُقْتَصَرْ عليه كما جاء في الأدلة؛ لأنها ابتداء عبادة وابتداء العبادة هذا لابد فيه من دليل؛ لأنَّ الأصل أنَّ أحداً لا يعمل عن أحد، لا ينوب أحد عن أحد، وكل إنسان يعمل.
لهذا الصحابة سألوا؛ لأنَّ الأصل متقرر عندهم، سألوا أأحج؟ أتصدق عنها؟
وهذا يدل على أنَّ الأصل المستقر هو أن لا ينوب أحد عن أحد في ذلك.