[المسألة الثالثة] :
مما أُسْتُدِلَّ به على المسح على الخفين من القرآن قوله - عز وجل - في آية الوضوء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، أسْتُدِلَّ به على أنَّ المسح هنا -مسح الأرجل- يُرَادُ به المسح على الخفين، والقراءة هكذا بالجر هي أحد القراءتين السبعيَّتَين، هاهنا قراءتان:
- القراءة الأولى {وَأَرْجُلَكُمْ} بنصب الأرْجُل عطفاً على المغسولات.
- والثانية {وَأَرْجُلِكُمْ} عَطْفَاً على الرأس عند أصحاب هذا القول؛ يعني فتكون مجرورة.
وهذا الاستدلال فيه نظر، وإن كان محلُّهُ كتب الفقه؛ لكن من باب الاستطراد نذكره، فيه نظر لأنَّ المسح على الخفين لا يكون إلى الكعبين، وإنما يَمْسَحُ ظاهر الخف على ظاهر القدم، وليست السُّنَّة أن تُسْتَوعَبْ الرجل مسحاً إلى الكعبين، ولهذا صار القول الظاهر في الآية على قراءة الجر أنَّ لها توجيهين:
1- التوجيه الأول: أن يكون هذا الجر لأجل المجاورة، والجر بالمجاورة أسلوب عربي معروف كثير الاستعمال، ومنه قول الله - عز وجل - {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26] ، مع أنَّ الألم وصف للعذاب، وأما اليوم فهو ظرف ولا يُوصف اليوم بأنه مؤلم أو ليس بمؤلم، ولهذا صار الظاهر هنا في هذه الآية أنَّ معناها إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم، يعني عذاباً أليماً في يوم، كما هو القول الأظهر من قولي العلماء هنا.
وجُرَّ هنا لأجل المجاورة فهي أسهل في اللفظ ولأجل الختام قال {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} ، وأما في لغة العرب فهو كثير معروف ومنه قول الشاعر:
فظلّ طُهَاةُ اللحم ما بين مُنْضِجٍ خفيفاً شواءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
(ما بين منضج خفيفاً شواء) ؛ لأنها مفعول لاسم الفاعل.
(خفيف شواء) فجر شواء لأنها مضاف إليه.
ثم قال (أو قديرٍ) مع أنَّ حقها أن يقول أو قديراً لأنها معطوفة على ما يُنْضَجْ لكنه جَرَّهَا بالمجاورة.
2- التوجيه الثاني: أنَّ قراءة الجر إذا كانت معطوفة على الرأس فإنه يكون المسح هنا بأنَّ العطف في مقام تسليط الفعل الأول على الجملة الثانية أو على الاسم الثاني.
فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين.
والمسح هنا لما جَعَلَ له غاية وهي أنه إلى الكعبين دلَّ على دخول الكعبين في المسح، وهذا يدل على أنَّ المسح المراد به هنا الغسل الخفيف؛ لأنَّ العرب تُطْلِقُ على الغسل مسحاً لأنَّهُ إمرارٌ خفيف وهو موجودٌ في اللغة، ومنه قوله تعالى {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:33] يعني مَرَّ عليها قتلاً على خفة.
فالمسح يكون بمرورٍ على خِفَّة، فالمسح الذي هو من الغَسْلْ هو غسل خفيف وهو مستعمل عندهم حيث يقولون مثلاً تَمَسَّحْتُ للصلاة إذا أراد أن يكون وضوؤه خفيفاً.