[المسألة الثامنة] :
قوله في آخر الكلام (وَإِنْ جَارُوا) هذا فيه تَبْيِينْ لأَصْلِ المسألة أنَّ الطاعة لا تُتَقَيَّدْ بأنها لولي الأمر العدل؛ يعني للعادل من الأئمة أو للتقي من الأئمة أو لمن يسير في كل الشرع من ولاة الأمر؛ بل وإن كان منه جَوْرْ فإنه يُطَاع.
والجَوْرْ يكون في صورتين:
- الصورة الأولى: جورٌ في الدين.
- الصورة الثانية: جورٌ في الدنيا.
والجَورْ في الدين ضابطه أن لا يَصِلَ فيه إلى الكفر.
والجَورْ في الدنيا يطاع فيه حتى ولو أخذ مالك وضرب ظهرك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم قال «أطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك» (?) .
ومن أهل العلم من فَرَّقَ بين ولاة العدل وولاة الجور في الطاعة، فقال:
- ولي الأمر ذو العدل يطاع مُطْلَقَاً إلا في المعصية.
- وأما ولي الأمر بالجور فإنه لا يُطَاع إلا فيما يُعْلَمُ أنه طاعة، أما إذا لم نعلم أنه طاعة قال فلا يُطَاعْ.
وهذا الكلام وإن كان منسوباً إلى بعض كبار أهل العلم المتقدمين؛ لكنه في مقابلة النصوص، ومُخَالِفٌ لإطلاق الأئمة في هذه المسائل.
والتفريق بين إمام العدل وإمام الجور له أصلٌ من كلام الأئمة؛ لكن في غير هذه الصورة.
فهم فَرَّقُوا ما بين إمام العدل وإمام الجور في صورة الأمر بالقتل أو بالاعتداء، فإنه إذا كان يُعْلَمْ أنَّ جوره في قتل من لا يستحق القتل فإنَّهُ إذا أَمَرَ أحداً أن يقتل فلاناً، قالوا: لا تتعين عليه الطاعة؛ لأنَّه قد يكون قَتْلُهُ ظُلْمَاً إذا لم يَسْتَبِنْ له أنه مستحقٌّ للقتل، وهذا يكون في أزمنة الفِتَنْ ونحو ذلك والعِدَاءات، يقول: أُقْتُلْ فلانَاً، ولا يسأل.
فهنا فَرَّقَ طائفة من الأئمة المتقدمين ما بين إمام العدل وإمام الجور، قالوا: إمام العدل لا يُسْأَلْ، وأما إمام العدل فَيُتَحَرَى إذا كان يُعْرَفْ أنَّهُ يسفك الدماء فإنه لا يَقْتُلُ أحداً إلا إذا استبان له أنه مستحقٌ للقتل.
* والذي يظهر في هذه المسألة ويتعيّن الأخذ به أن يُعمَلْ بِمُطْلَقَاتْ الأدلة؛ لأنَّ المسائل إذا اشتبهت وجَبَ الرجوع -خاصة في مسائل العقيدة- وجب الرجوع إلى ظاهر الدليل، ولا يَسُوغْ لأحد مخالفة ظاهر الدليل فيما أجمع العلماء على جَعْلِهِ عقيدة، وهي مسألة الخروج على الولاة وطاعة ولاة الأمر.
فحينئِذْ دلّتْ الأدلة على ما ذكرنا من أنَّ ولي الأمر يُطاع في الطاعة ويُطَاعُ في المسائل الاجتهادية، ولا يطاع في صورة -صورة واحدة-؛ وهي أن يأمر بمعصية الله - عز وجل - فلا سَمْع ولا طاعة.
ويكون إذاً الجور ليس سبباً في الخروج -سواء كان جوراً في الدين أو كان جوراً في الدنيا-؛ بل أكثر ما يكون الخروج بسبب الجَوْرِ في الدنيا، كما ذكر ذلك ابن تيمية في منهاج أهل السنة قال: أكثر تأويل من خَرَجْ بسبب جور بعض الولاة في أمور الدنيا.
فإذاً قوله هنا (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) يعني به أنّ عقيدة السلف الصالح أن يُسْمَعَ ويُطَاعْ ولي الأمر، ويحافظ على البيعة، ولا يخرج المرء ولا يَلْقَى الله وليس له حجة بنزع اليد من الطاعة، ومهما كان الذي رآه إذا لم يَرَ الكفر البَوَاحْ الذي فيه من الله برهان.