[المسألة الثالثة] :
قوله (وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) هذا صحيح؛ لكنَّهُ وجه تفاضل وليس كل أوجُهْ التفاضل.
(فالتفاضل قد يكون مِنَّةً مِنَ الله - عز وجل - وتَكَرُّمَاً أن يَمُنَّ على أحد بأن يكون أفضل من أحد، والله - عز وجل - يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
(ويكون التفاضل أيضاً بأمورٍ زمانية مثل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه زائدة عن الأمور التي ذكرها وهي (الْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) ، وقد جاء في الحديث لمقام أحدهم ساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عبادة أحدكم ستين سنة أو كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم (?) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي في الصحيحين «لا تسبوا أصحابي -لما نِيلَ من عبد الرحمن بن عوف وهو من السابقين- فوالذي نفس محمد بيده فلو أنفق أحكم مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» (?) يعني ولا نصف المد، وذلك فضل خاص زماني لأنهم اتّصلوا وصبحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الوجه الثالث: التفاضل يكون بأعمال القلوب دون الأعمال الظاهرة، فقد تكون الأعمال الظاهرة قليلة؛ لكن أعمال القلوب عظيمة.
وأعمال القلوب يُؤْجَرْ عليها العبد في الواجبات، ويُؤْجَرْ على الانتهاء عن المنهيات -منهيات أعمال القلوب من الكِبْرْ والبَطَرْ ورؤية النفس ونحو ذلك وسوء الظن بالله أو سوء الظن بالخلق يعني بالمسلمين-، ومنها أعمال يؤجر على فعلها ويأثَمْ على فعلها؛ يعني يؤجر على فعل بعض الأعمال ويأثم على فعل بعض الأعمال.
فإذا كان كذلك كان فعل القلب ميداناً للتفاضل، عمل القلب ميداناً للتفاضل.
لهذا يُرْوَى عن الحسن البصري رحمه الله أنه سئل: لماذا سَبَقَ الصحابة وفُضِّلوا مع أنّ عبادة من بعدهم يعني التابعين أكثر من عبادتهم؟ فقال الحسن (كانوا يتعبدون -يعني الصحابة- والآخرة في قلوبهم، وهؤلاء يتعبدون والدنيا في قلوبهم) .
العمل الظاهر واحد؛ بل ربما يكون أكثر، ولهذا صار الابتلاء بحسن العمل، وحُسْنُ العمل فيه الإخلاص وفيه المتابعة، وإذا اتّفق هذا وهذا في المتابعة، فهل يتّفقان في عمل القلب؟
وهل يتّفقان في الإخلاص؟ وهل يتّفقان في حسن العمل الباطن وفي الخشية والإنابة؟
لا يتفقون، هذا وهذا يصلون جنب بعضٍ وهذا وهذا يختلفون تماما.
هذه بعض المسائل المتعلقة بذلك، فتحصَّلَ من هذا أنَّ قوله (أَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) ليس صواباً بل هو غلط، وليس إيمان الرسل كإيمان عامة أتباعهم، وليس إيمان الناس كإيمان الصحابة، وليس إيمان الصالحين كإيمان الفاسقين، وليس إيمان المُقَرَّبين كإيمان سائر خلق الله من المكلَّفين.
هذا فيه اختلاف فهم يختلفون أعظم الاختلاف في إيمانهم بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته، وما في قلوبهم من العلم الإجمالي والعلم التفصيلي وما في قلوبهم من الأعمال الصّالحة وكذلك ما عملوه ظاهراً من الأعمال الصّالحة وانتهوا عما نهاهم الله - عز وجل - عنه، فهم يختلفون في ذلك أعظم الاختلاف.
أسأل الله - عز وجل - أن يجعلني وإياكم من أهل المقامات العالية في الإيمان، وأن يغفر لنا ذنوبنا الكثيرة وزللنا وتقصيرنا، وأن يبارك لنا في قليل أعمالنا، وأن يُصلح لنا نياتنا وذريّاتنا وأهلينا، إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.