[المسألة الثانية] :
أنَّ أصل الإيمان إذا قلنا هو التصديق، فإنَّ التصديق يتفاوت.
التّصديق نفسه الذي هو حد الإيمان -لأنهم عَرَّفُوا الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان- هذا التصديق الذي هو في تعريف الإيمان يتفاوت الناس فيه، وأيضاً يزيد في المعين وينقص.
وأسباب زيادة التصديق ونقصان التصديق أمور:
1 - الأول: أنَّ مسائل الشّرع، مسائل الكتاب والسنة كثيرة، سواء في الأمور الاعتقادية أو في الأمور العملية، وهذه كلها يجب الإيمان بها على الإجمال والتفصيل.
فإيمانُ وتَصْدِيْقُ مَنْ كَانَ مُقْتَصِرَاً على الإجماليات من جُهَّال المسلمين ليس كإيمان وتصديق من صَدَّقَ بكل ما عَلِمَهُ.
فالعَالِمُ تصديقُه مُجْمَلْ وتَصْدِيقُهُ مُفَصَّلْ بكل ما عَلِمَهْ، وأمّا الجاهل فتصْدِيقُهُ مُجْمل وما عَلِمَهُ من الشريعة قليلٌ صَدَّقَ به لكنه تصديقٌ ببعض الأمور.
فمن صَدَّقَ بكل الفروع -سواءٌ فروع العقيدة أو فروع الشريعة- من صَدَّقَ بها جميعاً فتصديقه أعلى ممن صَدَّقَ تصديقاً إجمالياً لا تفصيل فيه.
فإذاً نفس التصديق من جهة أوامر الشريعة والإيمان بالنصوص يختلف من جهة الإجمال والتفصيل.
2- الثاني: الأعمال الظاهرة أيضاً امتثالاً للأوامر واجتناباً للنواهي تُؤَثِّرْ في التصديق ويؤثر فيها التصديق.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة ذات شرف يرفع إليه فيها الناس أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» (?) كما في الصحيح، وفي مسند الإمام أحمد قال «إذا زنى العبد ارتفع الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا ترك عاود» (?) ، فإذاً هو حينما يفعل هذه الكبيرة، كبيرة الزنا أو كبيرة شرب الخمر أو كبيرة السرقة أو ما شابهها، حين يفعل، قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ؛ لكن هنا هل زال تصديقه بالكلية؟
لا، لكن التصديق القوي المُسْتَحْضَرْ بالله - عز وجل - وبالدّار الآخرة وبعقابه والحساب والعذاب وما يكون بعد ذلك ومن العقوبات في الدنيا، هذا التصديق المتجزِّئ الكثير، هذا التصديق غاب عنه حين واقع المحظور، فلذلك قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» .
فإذاً الأعمال الظاهرة امتثالاً للواجب وانتهاءً عن المحرم هذه تزيد في التصديق، قال - عز وجل - {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2] ، وزيادة الإيمان ترجع إلى أركان الإيمان، إذْ تخصيص بعض الأركان دون بعض ليس عليه دليل، زيادة التصديق وزيادة العمل وزيادة الإقرار، وكذلك قوله - عز وجل - {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} ، {إِيمَانًا} هنا نكرة فتفيد الإطلاق في هذا المقام يعني إيماناً من جهة العمل وإيمان من جهة الإقرار وإيمان من جهة التصديق والاعتقاد.
3- الثالث: أعمال القلوب مختلفة، الإنابة إلى الله - عز وجل -، ومحبة الرب سبحانه والخضوع له والتلذذ بمناجاته والأُنْسْ بتلاوة كتابه والتعرض لنفحاته في الأوقات الفاضلة، هذه أمور تزيد من اعتقاد القلب، وكل أحد يعلم من نفسه أنَّ حاله مع وجود هذه الأمور ومجاهدة النفس فيها ليس كحاله بدونها، وإيقانه بالجنة والنار وبالنعيم وبالعذاب وتوكُلُهُ على الله - عز وجل - ويقينه وقوّته في الإيمان تختلف فيما إذا تعاطى هذه العبادات وفيما إذا تهاون بها.
فإذاً إيقانه وتصديقه متصل بعبادات القلوب، وعبادات القلوب تزيد في التصديق والتصديق زيادته يؤثر فيها، فعمل القلب واحد، وإذا قلنا عمل القلب نسميه كذا ونسميه كذا فباعتبار التَّجْزِيء باعتبار الإيضاح؛ لكن في الحقيقة القلب شيء واحد، إذا جاءه التوكل قَوِيَ التصديق، إذا قَوِيَ التصديق قويت محبة الله - عز وجل -، إذا قويت محبة الله سبحانه وتعالى قويت الإنابة إليه وامتثال أوامره والرغبة فيما عنده.
فالقلب -إذاً- تفريقُ أعماله إنما هو للإيضاح والبيان، وإلا فكل عملٍ قلبيٍ مؤثر على العمل الآخر صِدْقَاً في الاعتقاد وإنابة وخضوع وامتثال ظاهر وامتثال باطن وإقرار وإيقان.
ولهذا تجد أنّ أعظم المؤمنين إيمانا أكثرهم خضوعاً وذلاً لله - عز وجل - وعدم ترفع على الخلق؛ لأنَّ هذا الذي في القلب بعضه يؤثر على بعض.
الصلاة يؤثر على الثواب فيها وعلى حُسنها تصديق القلب وخشية القلب وإنابته وحضوره إلى آخره، وكذلك هي تؤثر في هذه الأعمال.