[المسألة الرابعة] :
تعريف الطحاوي لهذه المسألة وهي (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) ، هذا فيه إخراج العمل أن يكون مورِدَاً للإيمان وقَصْرْ الإيمان من حيث المورد على الإقرار والتصديق، وهذا كما ذكرت لك مذهب مرجئة الفقهاء.
والمرجئة في هذه المسألة لهم أقوال متعددة أشهرها قولان:
1- قول جمهور المرجئة وهو أنَّ الإيمان هو التصديق، ولا يلزم معه إقرار.
2- ثُمَّ مرجئة الفقهاء -وذهب إليه الماتريدية والأشاعرة وجماعة- أنَّ الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان.
وسُمُّوا مرجئة لأنهم أرجؤوا العمل عن مسمّى الإيمان؛ يعني أخَّرُوهُ عن مسمى الإيمان، فجعلوا الإيمان متحققاً بلا عمل.
واستدلوا لمذهبهم بعدة أدلة من أشهرها قول الله - عز وجل - في آيات كثيرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهذا من أقوى أدلتهم على هذه المسألة، فعَطَفَ العمل على الإيمان، قالوا فهذا يدل على التغاير ما بين العمل وما بين الإيمان؛ لأنه لو كان عمل الصالحات في الإيمان لما قال {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فلمَّا عَطَفَ العمل على الإيمان قالوا دلَّنَا على تأخير العمل وإرجاء العمل عن مسمى الإيمان.
والجواب عن ذلك؛ يعني عن هذا الاستدلال بجواب مختصر ونرجئ الجواب المطول، الجواب عن ذلك أنَّ اللغة فيها:
& العطف بالواو ويُرَادُ بالعطف بالواو التَّغايُرْ:
والتغاير:
- تارةً يكون تغاير ذوات:
ومعناه أنك تقول مثلاً في اللغة: دخل محمد وخالد، فمحمد ذاته غير ذات خالد، هذا له حقيقة ذات وهذا له حقيقة، هذا يسمى تغاير ذوات.
- وتارةً يكون تغاير صفات.
تغاير الصفات تقول عندي مُهَنَّدٌ وصارمٌ وحسام، والذي عندك سيفٌ واحد يعني الذي عند العربي سيفٌ واحدٌ، لكن يقول:
مُهَنَّدٌ من جهة وصفه أنه صُنِعَ في الهند.
وصارمٌ من جهة شهرته وأنه يَصْرِمْ.
وحسام من جهة أنه من وَقَعَ عليه حَسَمَهُ وقتله.
منه في القرآن قال - عز وجل - في تغاير الصفات {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1] ، الكتاب هو القرآن، والقرآن هو الكتاب، عَطَفَ بالواو هل لتغاير الذوات، الكتاب شيء والقرآن شيء؟
لا أحد يقول بهذا من المتقدمين لا أحد يقول بهذا، فصار التعاطف هنا لتغاير الصفات {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} نُظِرَ فيه إلى جهة كونه مكتوباً باقياً، {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} يعني أنه يُقْرَأُ ويُنْظَرُ فيه إلى التلاوة والقراءة فهذا تغاير صفات.
@ وتارةً يكون العطف بالواو لا لأجل التغاير ولكن تَغَايُرٌ ما بين الجزء والكل، وما بين العام والخاص:
فيُعْطَفْ الخاص على العام ويعطف العام على الخاص، ومثاله قول الله - عز وجل - في سورة البقرة {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] {عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} لاشك الملائكة غير الله - عز وجل -، الملائكة مخلوقة والرب - عز وجل - هو مالك الملك وخالق الخلق.
{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} الرسل منهم رسل من الملائكة، ومنهم رسل من {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، فالرسل هنا أعم من الملائكة لأنَّ منهم الرسل من الملائكة ومنهم الرسل من البشر.
فإذاً هنا صار عطفاً: عَطْفْ الكلي على الجزئي.
ثم قال {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} جبريل وميكال من الرسل أو لا؟
من الرسل.
من الملائكة؟
نعم.
فعطفهم، هل حقيقة جبريل وميكال غير الملائكة؟
لا، هذا تغاير صحيح؛ ولكن تغايرٌ بين حقيقة الجزء والكل والكل والجزء، وليس تغاير ذوات ولا تغاير صفات ولا تغاير حقيقة.
ومن هذا عَطْفُ الخاص على العام لأجل التغاير ما بين الجزء والكل بقوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ} [الكهف:107] ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا} [مريم:96] ، الآيات كثيرة آمنوا وعملوا الصالحات، عَطَفَ العمل على الإيمان لأجل هذا وإلا فهو داخل في حقيقته.
هنا لماذا تُخَصُّ الخاص بالذكر بعد العام؟
لأجل التنبيه على شرفه.
فالعرب تَعْطِفُ الخاص على العام وتغاير في هذا لأجل التنبيه على شرف ما ذُكِرْ.
لأنك تقول مثلا جاءني المشايخ وسماحة الشيخ عبد العزيز، هل هو ليس من المشايخ؟
لكن هنا للتنبيه على شرفه أنه هو المقصود، جاءني المشايخ جميعاً وجاء المقصود أو المقدم فيهم إلى آخره تنبيهاً على شرفه ومنزلته إلى آخره.
فإذاً الاستدلال بهذا، هذا جواب مختصر ونذكر لكم بقية الأدلة والإجابة عليها فيما يأتي.